أنت هنا

قراءة كتاب في بلاد الدخان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
في بلاد الدخان

في بلاد الدخان

كتاب " في بلاد الدخان " ، تأليف هدى عيد ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

(3)

المائدة ازدحمت سريعاً بالمشهّيات وأفخر أنواع الأسماك نُثرت عليها يرأسها القريدس وقد بدا منظره مثيراً للشّهية لدرجة عظيمة، وظهر عصمت من سلوكه وطريقة تعامله مع من يحيطون به ألوفاً للمكان واضح النفوذ فيه، تابع:

ــــــ قلتُ أنهيت اختصاصي، اختصاص الهندسة، البلد في أيدينا الآن ورشة عمار لا تنتهي ولن تنتهي والشاطر من يتقن أصول اللعبة وأنا لاعب جيد، تعرفني، ها ــــــ مستغرقاً في الضحك ــــــ كنت أتفوّق عليكم دائماً، ويبدو لي أني ما زلت أفعل، أمزح، أمزح فقط يا صديقي.

ــــــ لقد كنت تتفوّق علينا، لكن بأن تغش هذا وتخدع ذاك. قال إبراهيم بصوت ضاحك.

ــــــ آه (بعينين متسعتين على ضيقهما) ها لا زلت تذكر كانت أياماً جميلة ولكن ما هو اختصاصك؟ أعرف أنك درست الطبّ لكن الاختصاص لا أدري ما هو؟

ــــــ لقد تخصصت في طب الأسنان وحصلت على دبلوم في التجميل والتقويم.

ــــــ ستجد مجالاً لتضع قدمك في هذه المدينة المزدحمة؟!!

ــــــ سأحاول جاهداً، وإن كان الشكّ قد بدأ يداخلني فحتّى الآن لم أحصل على العيادة ولا على شقة للإقامة، أضف إلى ذلك أنَّ الحصول على المعدّات والآلات اللازمة سيكلّفني مبالغ يستعصي عليّ التفكير فيها، ما كنت أعلم أن العودة ستكون باهظة هكذا.

ــــــ لا تُبد وجهاً حزيناً كهذا، كلّ المسائل تُحل. قد أساعدك أنا في الحصول على شقة وبالنسبة للعيادة لِمَ لا تبدأ العمل مع زميل لك تشاركه عيادته مدة بعد الظهر مثلاً، إعتمد أيّ حل، لا تضع يدك على خدك كالعجائز، أنا أرفض منطق الاستسلام لليأس.

ــــــ دعك مني، حدّثني عنك، يبدو أنه قد فاتني الكثير من أخبارك!!

ــــــ فاتك الكثير، الكثير، أنا الآن ابن هذه المدينة الكبيرة، لم أعد أذهب إلى القرية إلا فيما ندر. معظم أيامي أقضيها ههنا. بيروت مدينة عظيمة. صدرها رحب معبّأ بالكنوز!! تذكر أيام صبانا حين كنا ننزل إلى بيروت، نستغرب، ونستهجن، ويدوخ رأسانا الصغيران من مرأى السيارات الملتمعة؟ كنتم تعودون عصراً إلى قراكم، ووحدي أعود إلى حجرة أبي الحقيرة، تذكرها ــــــ مشيراً بيده ــــــ على «البسطة» تلك الغرفة التي آذت عيني لظلمتها وكان لها أكبر الفضل في خسارتي نسبة كبيرة من نظري. أجلس على المقعد المهترىء الجوانب وقد رقّعت والدتي غطاءه مئات المرات، أحاول أن أدرس ويلسعني البعوض الذي اجتذبته رطوبة المكان، أحاول أن أنام فإذا بالمطارق تهوي على رأسي والأقدام التي تتغندر في الطّابق الذي علا ذاك القبو الأرضيّ تدوس أفكاري، وتشعلها، فأخرج متمرداً، تقودني قدماي إلى الروشة. هل رأيتها ليلاً قبل الحرب وقد انتشرت في أنحائها الأضواء!؟! أتمشّى على الأرصفة ذهاباً وإياباً وعيناي لا تفارقان الشقق التي شعت في داخلها آلاف الشموس؛ أضواءٌ ملونة باهرة تشد ناظري وتجعل من فكري أسيراً لها بكل ما فيها ومَنْ حولها، ما مَلّت قدماي يوماً الرحلة المكرّرة حتى أقسمت في ساعة ما أن سيكون لي هناك مكان، شقة، فيلا، دوبلكس. لم أكن أعرف يومها أن هناك ما يسمّى كذلك، تعرف يا صديقي، ثمة أشياء لا تموت في دواخلنا، أمتلك الآن شقة رحيبة في «مار الياس» شقة تشعّ في أنحائها آلاف الأضواء، وتتوزّع في زواياها عشرات المرايا تعكس تلك الأضواء وتشعلها، لكن أضواء الرّوشة لا زالت تزعجني وقد تزورني في الأحلام مشاهد أضواء تبهر عيني. أثقل عليك؟ لا أدري لم أحدثك بكل ذا ــــــ مبتسماً ابتسامة صفراء! ــــــ أوَ تدري ما أخبرتُ أحداً بكل ما قلتُ سابقاً. المهم ــــــ كُلْ يبدو لي أنَّ شهيتك باتت قليلة على الطعام الذي كنا نختصم عليه أتذكر، ألا يعجبك ما على المائدة؟!

أجاب إبراهيم ضاحكاً:

ــــــ لا تبالغ، المائدة فاخرة لكنك تسرقني منها بالحديث، ولم تخبرني بعد كيف أنهيت اختصاصك؟

ــــــ تحاول إحراجي، لكني لن أُحرج، اشتغلت كثيراً وتلاعبت أحياناً واجتهدت أحياناً أخرى، وبين كل ذا التحقت بكلية الهندسة غير آبه باعتراض أبويَّ لكثرة المصاريف. سأكون مهندساً وأمتلك الشقة التي أريد وهناك تعرّفت عليها، زوجتي الآن، سأعرّفك يوماً عليها.

ــــــ قالها بفمّ قد التوى طرفه ثم ضُمَّ ــــــ كانت في السنة الثالثة (لا أدري كيف انتهت إليها) وأنا كنت في السنة الأولى تكبرني بأربعة أعوام، لا بأس فالمرأة المجرّبة ضرورية، يطلق ضحكة ساخرة تخرج من أنفه، كانت زوجتي مجرّبة لكل شيء: جرّبت المال فهي إحدى ساكنات الشقق الفخمة في بيروت، جرّبت السيارات وتمرّست بقيادتها، وجرّبت الحب بل واختبرت الرجال ــــــ آه، نسيت أن أخبركَ أنّها ليست جميلة ــــــ قالت في بدايات لقائنا أنها كانت مخطوبة فلم أعبأ ولم أستفهم، وفيما بعد اكتشفت أنها ما اكتفت إطلاقاً بمجرد الخطبة وكذلك لم أعبأ، اتخذتها سلماً أرتقي عليه تنفق عليّ من أموال أبيها الطائلة، وأشبع جسدها النّهم أبداً لغير المال، وذكائي لا يعرف حدوداً ــــــ بيني وبينك أملك ذكاءً يُوزّع على أبناء قريتنا كلّهم! المهم أنهيت اختصاصي وهي تركت الكلية مكتفية بي مغنماً من دخولها إليها. تسألني عنها بعدُ، إنّها في منزلي تقيم الحفلات التي تمتدّ طويلاً، تُمارس السباحة وتسافر دائماً لا أدري إلى أين ولا مع من؟ تشد بشرتها وأنا أرفض منها أن تنجب لي الأولاد.

ــــــ تبدو قاسياً.

ــــــ ليست قسوة، سمه تحدياً، أو محاولة اختيار المصير، تصفية حساب مع الزمن ربما، سمه ما شئت، ولا زالت لي مع الحياة جولات.

ــــــ مشاريع قادمة؟ ورش بناء جديدة؟

ــــــ خطط، مشاريع، لم لا، أحلام، طموحات لم لا، فأنا أطمح للوزارة اليوم؛ ــــــ مبتسماً ــــــ لا تدع عينيك تشعّان هكذا. أجل أطمح للوزارة ولم لا، من يصلون إليها أفضل مني؟! تعتقد ذلك؟ أنا لا أعتقد، المسألة يا صاحبي مسألة ذكاء وأنا أمتلكه وأمتلكه، ولا شيء يستعصي في الحياة ما دمت تطمح للأمام. ما أكلت كثيراً بعد؟

ــــــ الحمد للَّه، بطني امتلأ لأيام.

ــــــ تحافظ على صحتك ها، أنتم الأطباء، يا لكم من أشخاص!

الصفحات