أنت هنا

قراءة كتاب في بلاد الدخان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
في بلاد الدخان

في بلاد الدخان

كتاب " في بلاد الدخان " ، تأليف هدى عيد ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

أصر على العودة وأعلن قراره، رفضت هي، صرخت في وجهه، ذكّرته بزياراتها السّابقة إلى قريته، وبضيقها بأهله وبطريقة عيشهم التي تقترب من البدائية.

أمه لا زالت تغسل الثياب على يديها في زمن الميكانيك!! وقد تقضي أربع ساعات وربما أكثر في المطبخ تحضّر الطعام. لم؟ لتأكلوه؟ لم تضييع الوقت وهدره لم؟ ستضطر ثانية للنّوم في القرية حيث يلسعها البعوض وتنبح الكلاب جماعة، وفي النهارات تجتمع العائلة بأكملها في منزله والديه: أختاه المتزوجتان وأولادهما الخمسة وأخواه، الأكبر زوج «سعدى» اللئيمة التي ما فتئت تتحرّش بزوجته منذ وصولها لغيرتها منها، وتحرّض حماتها عليها: لم لا تساعدنا في المطبخ أو تشاركنا في أعمال المنزل أعَلى رأسها ريشة؟ من تظن نفسها لتحتقرنا وتتعالى علينا؟ تظنّ نفسها جميلة، إنها باهتة لا رونق بها؟!

و«أرمال» تسمع وتفهم فهي درست العربية في فرنسا، والتحقت بأكثر من دورة لتعلّمها، حتى باتت تسمع فتفهم سريعاً الكثير من العبارات بل تستطيع نطق البعض منها بسهولة، وسعدى الغبية تظنّها لا تفهم وتطوّل لسانها، حتى كادت امرأته في الزيارة الأخيرة تشعلها معركة لولا كياسة أمهِ وسعة صدرها وحبها له، إذ عملت جاهدة على تهدئة «أرمال» واسترضائها، وأجبرت ابنها الأكبر على لجم زوجته قدر الإمكان ــــــ لئلا يرحل أخوك إلى فرنسا ولا تعود هذه الأجنبية تسمح له بالعودة إلينا أبداً، ألا تفهمون هذا الأمر ــــــ الوحيد الذي كانت ترتاح له زوجته هو أخوه الأصغر مصطفى؛ هو فتى طيّب فعلاً، التحق بالجامعة يدرس العلوم السياسية، ويحاول كما يقول أن يفهم شيئاً مما يجري حوله في هذا العالم، لكن رغم كلامه الملتزم الذي يقول، كان يبدو ذا دخيلة صافية ككرة بلورية صافية لا تشوبها شائبة ولا تعلق بها أدران، فهو يتمتع بحالة من الصّفاء الدّاخلي والعذوبة الخالصة التي قلّ وجودها.

أحب أخوه الصغيرة ــــــ صغيرته ــــــ وهي ألفته، لذلك كان يقضي وقتاً ممتعاً يلاطفها ويلاعبها، وينطلق بها في الكثير من الأحايين إلى محال السكاكر يشتري لها ما يستدر به مزيداً من حبها، لذا استلطفته أرمال وارتاحت له، ولجأت إليه أحياناً في لحظات ضيقها تبثّه شكواها، وأسباب انزعاجها، وهو يصغي لمجرد الإصغاء تارة، وأخرى محاولاً ردم شيء من الهوة التي تفصل بينها وبين من حولها دون أن يفلح في تحقيق ذلك لاستحكام العداء الخفي بين الطرفين المشتبكين أو بين الأطراف المشتبكة.

لذا، الوضع كله لم يكن مريحاً بالنسبة لها، لِمَ تترك وطنها وأهلها، وتأتي إلى هذه البلاد، ما الذي يلزمها؟

«لم لا تبقى ههنا» ما الذي ينقصك، إلام تسعى هناك، المجال مفتوح أمامك للعمل في هذه البلاد، تبقى ملمّاً بكل حديث وجديد، بكل ما يكتشف في عالم الطب، وبكل ما يصدر من نتائج الأبحاث، وتذهب إلى هناك لتراوحَ مكانك، لا بل لتتأخّر وتأكلك القناعة ويقتلك الخمول، غريب أمرك أنا لا أفهمك أحياناً.

تعرف يا إبراهيم مكانة أبي ووظيفته ومركزه، إذا أردت، يتكلم مع بعض المسؤولين في وزارة الصحة لتعامل على الأقل كسائر الأطباء الفرنسيين فنعمل من ثم على استملاك شقة واسعة في هذه المدينة النظيفة المتحضرة أم أنك اشتقت لزحمة بلادك وقذارة طرقاته ورداءتها؟!

ــــــ سأعود رغم كل ما تقولين، ترفضين مغادرة أهلك وأرضك، لم تريدين مني أن أفعل ما ترفضين أنت فعله.

ــــــ ليس أهلك وأرضك الدافع لما تفعل، إنها هي التي تشدك إلى هناك، تظنني غبية، لا أدري واقع الأمور، لا لن أتركك تعود إليها.

ــــــ مَن هي التي تشدّني، أنا لا أدري عما تتكلمين، بتِّ إنسانة لا تطاق، تتوهمين أشياء لا وجود لها.

بحزن تجيب: لا يا إبراهيم ليس وهماً أنا متأكدة مما أقول، طويلاً استيقظت في الليالي، تؤرقني همساتك ويحزنني أنينك، وحديثك الخافت بعد أن بتّ أفهمه، أجلس في الفراش، أحاول التأكّد أنّي لا أحلم فإذا بي أجدني محقّة فأنت تتكلم ليلاً والحديث واحد لا يتغير، ماذا تقول: وفيكة لم تفعلين؟ لا تتركيني أرجوك، تحدّثها عن إشاعات وعن، عن ماذا، تأتي على ذكر أبيك «الحاج». أجدك عندها تتسرب من يدي ولا أعود أطبق عليك. أوَ تدري يا إبراهيم، كانت لي علاقاتي قبل أنْ ألتقيك وأنت تعرف ومتأكد أنه لم ينقصني الجمال يوماً لأجتذب الرّجال، وقد كنت أفعل، وأتسلى، أتمتع بكل دقيقة من حياتي، بكلّ لحظة من أيامي، ولم لا، فجمالي يوماً ما سيتحوّل، وتختفي ملامحه أو على الأقل يطالها شيء من التشويه ولا يعود للمتع عندها من سبيل.

إلى أن كان يوم ــــــ يوم لمحتك في الكافيتريا ــــــ أسمر الوجه، متطاير الشّعر أسوده، وعيناك عنيدتان سارحتان فيهما حزن شدّني. وقلت في ذاتي هذا هو صيدي الجديد، هذه طريدتي التي إليها أسعى منذ زمن طويل، لكني بعد فترة وجدتك صيداً مستعصياً، عصياً، بعيداً لا تُنال، فازداد شغفي بك وصممت على أن أنال منك، وما سئمت فرارك مني، بل زادني تصميماً وإرادة هذا الفرار، فرحت أتصيدك في كل مكان، ألاحقك في كل زاوية تذهب إليها، ولا أملُّ وأنت تبالغ في الصّدود والإهمال إلى أن قررتَ فجأة، ولا أدري لِمَ أنْ تقع في فخي، كأنّك قررت ذلك، كأنك سئمت الفرار منّي، فكانَ أنْ سقطت في فخي، ولكني لم أنتشِ بنصري، ففي الليلة التي تمّ فيها الاحتفال، علا صوتك بعد أنْ استغرقت في النوم، تنادي همساً امرأة سواي، وتؤكد لي هزيمتي وانكساري، وتحرقني أمام ذاتي.

لا يا صديقي لن أعود إلى هناك، لأراني أخسرك نهائياً؛ أحياناً يسعدنا أنْ نحتفظ بأشلاء أحبائنا ولو كانت محنطة.

ــــــ إذن سأعود بمفردي يا أرمال. وفرنسواز ستكون برفقتي.

ــــــ لن تفعل، لن أسمح لك. وأنت تعلم أنّ القانون بجانبي.

ــــــ حينما أقول أنّي سآخذها، لا أنت ولا قانون بلادك تمنعاني. إياك أنْ تتحديني وتجعلي نفسك في موقع المواجهة معي.

ــــــ إبراهيم، أرجوك، لا تجعل الأمور تصل بيننا إلى هذا الحد.

ــــــ أنت من يعقد الأمور عليّ، تعدّين عليّ أنفاسي، تحاسبينني على كلّ كبيرة وصغيرة، تدخلين أحلامي وتُجرين حسابات الواقع على أساسها، وحياتي يا صديقتي امتلأت بالصراعات حتى سئمتها.

لن ألزمك فعل شيء أرمال، فلا تكوني أنانية لتطلبي ما لا أطيق. قرار العودة نهائي ولن أتراجع عنه، فلا تتعبي نفسك في توخّي غير ذلك.

ــــــ حسناً سأعود معك، أنا لا أطيق الابتعاد عنك، وأنت تعرف ذلك، لو فعلت سأجنّ لكن عدني، عدني أرجوك أنْ تجد شقة في المدينة نسكنها، أرجوك.

ــــــ حاضر أعدك.

الصفحات