أنت هنا

قراءة كتاب جوهر الإنسان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
جوهر الإنسان

جوهر الإنسان

يتناوَل هذا الكتاب أفكاراً كانت قد قُدِّمَت في بعض كتبي الأولى، ومحاولات لتعميقها وتطويرها. ففي "الهروب من الحريّة" ناقَشتُ مُشكلة الحرية بالإضافة إلى السادية والمازوخية والتدميرية.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 5

II. أشكال العنف المختلفة

مع أنّ الجزء الأساسي من هذا الكتاب يتناول الأشكال الخبيثة من التدميرية، إلا أنني أوَدُّ أوّلاً مناقشة بعض أشكال العنف الأُخرى. وهذا لا يعني أنني أُخَطِّط لتناولها بشكلٍ شامل، إلا أنني أعتقد أنّ تناول مظاهر عنفية أقل مرضيةً قد يكون مفيداً في فهم أشكال التدميرية الأشدّ خباثةً ومرضيّةً. ويرتكز التمييز بين أشكال التدميرية المختلفة على التمييز بين دوافعها اللاواعية المتعلّقة بها. لأنّ فهم آليات السلوك اللاواعي هو فقط من يسمح بفهم السلوك نفسه، وفهم جذوره، وسياقه، والطاقة المشحون بها2.
يُعتبر "العنف اللعوب" أكثر أشكال العنف طبيعيّةً ولا مرضيّةً. ويمكن أن نجده في أشكال العنف تلك التي يمارس العنف فيها بهدف إبداء المهارة، وليس بهدف التدمير، وبدون أن يكون دافعها الكره أو التدميريّة. ويمكننا أن نضرب العديد من الأمثلة: من الألعاب الحربية للقبائل البدائيّة إلى فَن السَّيف في بوذيّة زِن. ففي كل أشكال ألعاب القتال هذه ليس الهدف هو القتل، حتّى لو كانت النتيجة موت الخصم بسبب خطئه في "الوجود في المكان غير المناسب". وطبعاً، عندما نتكلَّم عن عدم نيّة التدمير في العنف اللعوب فنحنُ نشير فقط إلى الأشكال المثاليّة لألعابٍ كهذه. أمّا في الواقع فيجد المرء غالباً عدوانيّةً لاواعية وتدميرية مختبئة خلف منطق اللعبة الظاهر. إلا أنّه حتى في هذه الحالة، يبقى الدافع الرئيسي لشكل العنف هذا هو إبداء المهارة وليس التدميرية.
أمّا الشكل الأكثر أهميّةً وعمليّةً بكثيرمن العنف اللعوب فهو "العنف الارتكاسيّ". وبالعنف الارتكاسي أعني العنف المستخدَم في الدفاع عن الحريّة والكرامة والملكية، سواء الخاصّة بالمرء نفسه أم بالآخرين. وهو متجذِّرٌ في الخوف، ولهذا السبب تماماً قد يكون أكثر أشكال العنف وجوداً.و قد يكون الخوف حقيقيّا أو متخَيّلاً، واعياً أو غير واع. إنّ شكل العنف هذا يخدم الحياة، وليس الموت. وهدفه هو البقاء وليس التدمير. وليس ناتجاً بالكامل عن انفعالاتٍ لا عقلانيّة، بل إلى ـ حَدٍّ ما ـ عن حسابٍ عقلانيّ. وبالتالي، هو يتضمَّن أيضاً تناسباً مُعَيّناً بين الغايات والوسائل. لقد بُرهِن سابقاً أنّ القتل لا يمكن أبداً أنْ يكون مبرَّراً أخلاقيّاً ـ حتّى في حالة الدفاع ـ إذا انطلقنا من مستوىً روحيّ أسمى. إلا أنَّ معظم من يحملون هذا المعتقَد يعترفون باختلاف طبيعة العنف في حالة الدفاع عن الحياة، عنها في حالة التدمير من أجل التدمير.
لا يرتكز الإحساس بالتهديد والعنف الارتكاسي الناتج ـ غالباً ـ على الواقع، بل على التلاعب بالعقل البشريّ. حيث يُقنع القادة الدينيون والسياسيون أنصارهم بأنّهم مهدَّدون من قِبل عدو ما، ليُطلقوا بذلك استجابة ذاتيّة لعدوانيّة ارتكاسيّة. ومن هنا فإنّ التمييز بين حروبٍ عادلة وغير عادلة، وهو ما فعلتهُ الحكومات الرأسمالية والشيوعية كما دعمته الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانية أيضاً، يستحق وضعه موضع التساؤل، باعتبار أنّ كلّ طرَف ينجح عادةً في تقديم موقفه كدفاعٍ ضدَّ هجوم3. وبالكاد يمكن رفع لواء حربٍ عدوانيّة لا يمكن إخفاؤها في لبوس الدفاع. أمّا السّؤال حول من كان ادّعاؤه الدفاع، صحيحاً، فهو ما يُقرّره المنتصرون عادةً، وبعد ذلك بوقتٍ طويل قد يتناوله مؤرّخون أكثر موضوعيّةً أحياناً. هذا ويُبَيّن الميل للتظاهر بأنّ أيّة حرب هي حربٌ دفاعية شيئين اثنين. أوّلاً، أنّهُ لا يمكن دفع معظم الناس ـ على الأقل في معظم البلدان المتحضّرة ـ للقتل والموت ما لم يتمّ إقناعهم أوّلاً بأنّهم يفعلون ذلك دفاعاً عن حيواتهم وحرّيّتهم.
ثانياً، يُبين أنّه من الصعب إقناع ملايين الناس أنّهم مهددون بخطر الهجوم عليهم، وبالتالي دعوتهم للدفاع عن أنفسهم. إنّ إقناعاً كهذا سيعتمد أوّلاً وقبل كل شيء على نقص التفكير المستقل والشعور بالاستقلاليّة، وعلى التبعية العاطفية للغالبية العظمى من الناس لقادتهم السياسيين. وعند وجود هذه التبعية، سَيُقبَل أي شيء يُقدَّم تقريباً بقوَّة وإقناع على أنّه حقيقي. إنّ النتائج النفسيّة لقبول اعتقادٍ ما بوجود تهديد مزعوم هي نتائج التهديدٍ الحقيقي نفسها. فالناس يشعرون بأنّهم مهددون، ومن أجل الدفاع عن أنفسهم يرحّبون بالقتل والتدمير. ففي حالة "أوهام الاضطهاد الارتيابيّة" نَجد نفس الآليّة، ولكن ليس على أساسٍ جمعي، بل على أساسٍ فرديّ. وفي كلتا الحالتين يشعر الشخص ذاتيّاً بالخَطر ويَرُدّ بعدوانيّة.
الوجه الآخر للعنف الارتكاسي هو شكل العنف الناتج عن "الإحباط". فنحن نجد أن السلوك العدواني لدى الحيوان والأطفال والبالغين ناتج عن إحباط حاجةٍ ما أو رغبةٍ ما لديهم4. ويُمثِّل هذا السلوك العدواني محاولةً ـ وإن كانت غالباً هَشّة ـ لبلوغ الغاية التي تمَّ إحباطها ـ عبر استخدام العنف. ومن الواضح أنّه عدوان في خدمة الحياة، وليس من أجل التدمير وحده. وباعتبار أنّ إحباط الحاجات والرغبات هو حالة كونيّة تظهر في معظم المجتمعات حتّى أيّامنا هذه، فلا سبب هناك للدهشة أمام ظهور العنف والعدوان باستمرار.
من العدوانية الناتجة عن الإحباط يمكن أن نذكر أيضاً العدوانية التي يوَلّدها "الحسد والغيرة". إذ يُشكّل كل من الحَسد والغيرة شكلاً خاصّاً من الإحباط. وهما ينتجان عن حقيقة امتلاك "ب" شيئاً ما يرغبه "أ"، أو يكون"ب" محبوباً من شخصٍ ما يحبّه "أ".
هنا يظهر الحسد والغيرة لدى "أ" ضدّ "ب" الذي يتلقّى ما يريده "أ" ولا يستطيع امتلاكه. إنّ الحسد والغيرة إحباطان،لا تبرزهما فقط حقيقة عدم تمكّن "أ" من نيل ما يريد، بل وأنّ الشخص الآخر مُفَضّلٌ أيضاً. وتعتبر قصّة قابيل ـ غير المحبوب لا لذنبٍ ارتكبه ـ الذي قتل أخاه المُفَضّل، وقصّة يوسف وأخوته، هما نسختان تقليديتان للحسَد والغيرة. ويُقّدّم الأدب التحليلي النفسي كمّاً هائلاً من البيانات السريرية حول الظاهرة نفسها.

الصفحات