أنت هنا

قراءة كتاب جوهر الإنسان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
جوهر الإنسان

جوهر الإنسان

يتناوَل هذا الكتاب أفكاراً كانت قد قُدِّمَت في بعض كتبي الأولى، ومحاولات لتعميقها وتطويرها. ففي "الهروب من الحريّة" ناقَشتُ مُشكلة الحرية بالإضافة إلى السادية والمازوخية والتدميرية.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 8

إنّ من اختبرَ بالكامل شدّة وتواتر العنف التدميري والسادي لدى الأفراد والجماعات، هو وحده من يمكنه أن يفهم أنّ العنف التعويضي ليس بالأمر السطحيّ، ولا بنتيجة عرضية لتأثيرات شريرة، أو عادات سيّئة، وإلى ما هنالك من هذه التعابير. بل هو طاقة لدى الإنسان توازي قوّتها وشدّتها قوّة وشدّة رغبته بالحياة. وهي قويّة إلى هذا الحَد تماماً بسبب كونها تُمَثّل ثورة الحياة بداخله ضدّ عجزه. فالإنسان يمتلك قدرةً على العنف التدميري والساديّ بسبب كونه إنساناً، وليس شيئاً، ولأنّه يتوجّب عليه تدمير الحياة إذا لم يستطع خلقها.و قد يُمثّل المسرح الروماني، الذي ينال فيه آلاف الناس العاجزين متعتهم القصوى برؤيتهم إنساناً تفترسه الوحوش أو يقتل إنساناً آخر، ذروة الحالة الساديّة.
من هذه الاعتبارات نستقي شيئاً آخر. إنّ العنف التعويضيّ هو النتيجة الضرورية لحياةٍ غير مُعاشة، وكسيحة. وقد يتم كبحه عبر الخوف من العقاب، كما قد يمكن تحريفه بكل أشكال الاستعراضات والتسلية. ومع ذلك يبقى كامناً في كامل قوّته، وسوف يظهرُ مُجَدّداً في أي وقتٍ تضعُفُ فيه القوّة الكابحة. أمّا العلاج الوحيد للتدميرية التعويضيّة فهو تطوير القدرة الخلاقة في الإنسان، وإمكانيّة الاستخدام المنتج لطاقاته البشريّة. لن يتوقّف الإنسان عن كونه مُدمّراً وساديّاً ما لم يتوَقّف عن كونه عاجزاً، ووحدها الشروط التي تجعل الإنسان مهتماً بالحياة هي التي ستطيح بتلك النزوات التي لطّخَت تاريخنا البشريّ بكل ذاك العار. من هنا نلاحظ: العنف التعويضي ليس في خدمة الحياة ـ كما هي الحال في العنف الارتكاسي ـ بل هو البديل المَرَضي للحياة، وهو يدلّ على عجز الحياة وفراغها. إلا أنّه حتى في نفيه الشديد هذا للحياة، لا يثبت سوى حاجة الإنسان إلى الحيويّة وعدم العجز.
إنّ نمط العنف الأخير الذي سنشرحه هو "التعطّش البدائي للدم". وهذا ليس بعنف العجز، بل هو التعطّش الدموي لإنسانٍ ما يزال مُكَبّلاً بارتباطه بالطبيعة. في داخله رغبة للقتل كطريقٍ لتجاوز الحياة، بقدر الخوف الذي في داخله من المضيّ قُدماً والتحوّل إلى كائنٍ بشريٍّ كامل (وهو خيار سأناقشه لاحقاً). وفي الإنسان الذي يسعى خلف معنى للحياة من خلال الرجوع إلى حالة وجودٍ قبل فرديّة، وعبر التحوّل إلى ما يشبه الحيوان ـ وليتحرّر بذلك من عبء العقل والمنطق ـ يصبح "الدم" جوهر الحياة. ويغدو سفك الدم مرادفاً للإحساس بالحيويّة والقوّة والفرادة والتفوّق على الآخرين. ويغدو القتل هو التطهير الأعظم، وإثبات الذات الأعظم في المستوى الأكثر قِدَماً. في المقابل، أن تُقتَل هو البديل المنطقي الوحيد للقتل، وهو التوازن في الحياة وفقاً للمفهوم القديم: أن تقتل بقدر ما تستطيع، وعندما تُشبع حياتكَ بالدّم تصبح جاهزاً لتُقتَل أنت بدورك. والقتل بهذا المعنى ليس في جوهره حبّاً بالموت، بل هو إثبات وتجاوز للحياة وفق مستوىً أكثر تقهقراً ونكوصاً.ويمكننا ملاحظة هذا العطش الدموي لدى الأفراد أحياناً في تخيّلاتهم وأحلامهم، وأحياناً في حالات المرض العقلي الشديد والإجرام. كما يمكن أن نلاحظه أحياناً قليلة في أوقات الحرب ـ سواء الأهلية أم العالميّة ـ عندما يتم تخطّي المحرّمات الاجتماعيّة الطبيعية. كما نلاحظه في المجتمع القديم، الذي كان القتل (أو التعرّض للقتل) فيه هو القطبيّة التي تحكم الحياة. ويمكن أن نلاحظ هذا أيضاً في ظاهرة مثل التضحية البشريّة لدى "الآزتك"، وفي الانتقام الدموي الذي مورِس في أماكن مثل الجبل الأسود9وكورسيكا، وفي دور الدم كتضحية في سبيل الله في العهد القديم. وتعتبر قصّة "غوستاف فلوبير" القصيرة "أسطورة القدّيس جوليان الاسبيتاري"10وصفاً شديد الوضوح لمتعة القتل. حيث يصف فلوبير رجُلاً ظهرت نبوءة عنه عند ولادته أنه سيُصبح فاتحاً عظيماً وقدّيساً عظيماً. يكبر هذا الشخص كطفلٍ عادي حتى أتى يوم اكتشف فيه متعة القتل. فأثناء خدمته في الكنيسة لاحَظ فأراً صغيراً يعدو مسرعاً عبر ثقب في الجدار. وقد أثار ذاك الفأر غضبه، وصمّم على التخلّص منه بنفسه. وهكذا، بعد أن أغلقَ الباب نثر بعض فتات الكعك على مسار المذبح، وانتظر أمام الثقب وفي يده عود صغير. وبعد انتظارٍ طويل ظهر أنفٌ ورديّ صغير، ثم َّ ظهر الفأر كلّه. ضربه بقوّةٍ كبيرة ووقف يراقب الجسم الصغير الذي غدا بلا حراك. سقطت قطرة دم ولوّثت البلاط. فقامَ بمسحها بسرعة بكمّه، رامياً الفأر للخارج بدون أن يخبر أحداً عن أي شيء. ولاحقاً أثناء خنقه لطائر "تلوى الطائر،جاعلاً قلبه يخفق بشدّة، مالئاً إيّاه بنشوةٍ وحشيّة عارمة". وباختباره عظمة إراقة الدّم أصبحَ مهووساً بقتل الحيوانات. لم يكن هناك أي حيوانٍ قويٌ أو مراوغ بما يكفي لينجو منه. لقد أصبحت إراقة الدم أكبرَ إثباتٍ لذاته وطريقه الوحيد لتجاوز الحياة كلّها. لسنواتٍ طويلة بقي قتل الحيوانات متعته وشغفه الوحيد. كان يعود ليلاً "مغطّى بالدّم والوحل تفوح منه رائحة الوحوش البريّة. وقد أصبح مثلها". لقد حقّق تقريباً هدفه في التحوّل إلى حيوان، إلا أنّه بحكم كونه بشريّاً لم يستطع تحقيق ذلك تماماً. وظهر صوتٌ في داخله يخبره أنّه في النهاية سيقتل أمّه وأباه.و لشدّة خوفه هرب من القلعة، متوقّفاً عن قتل الحيوانات، ليُصبح بدلاً من ذلك قائد جيشٍ شهيرٍ ومرهوب الجانب. وكمكافأةٍ على إحدى انتصاراته العظيمة تمّ وهبه امرأةً محبّةً وباهرة الجمال. فترك مهنته كمحارب، واستقرّ معها في حياةٍ تبدو كالنعيم. إلا أنّه بقي مع ذلك ضَجِراً ومكتئباً. وفي أحد الأيام عاد من جديد للصّيد، إلا أنّ قوّةً ما جعلت رمياته تخيب. وظهرت من جديد الحيوانات التي كان قد اصطادها، وشكّلت حلقةً حوله.كما جلس بعضها على وركيه، في حين وقف غيرها منتصباً. كان جوليان ـ وهو واقف في منتصف الحلقة بين الحيوانات ـ متجمّداً من الرعب، غير قادرٍ على القيام بأيّة حركة". وحينئذٍ قرّر العودة لزوجته وقلعته. وفي أثناء ذلك كان والداه قد عادا إلى القلعة وقد قدّمت زوجته لهما سريرها الخاص. ومعتقداً أنهما زوجته الحبيبة، قام بذبحهما كليهما. وبنكوصه إلى الدرَك الأسفل وقعَت الواقعة. أصبح جوليان قدّيساً مكرّساً حياته للفقراء والمرضى، ليعانق في النهاية مجذوماً محاولاً منحه الدفء، "وارتقى جوليان المدى الأزرق، وجهاً لوجه مع السيّد المسيح، الذي حمله نحو السّماء".
يصف فلوبير في هذه القصّة جوهر التعطّش للدم. إنّه الانتشاء بالحياة في شكلها الأكثر قِدَماً.
وبالتالي، بعد أن يبلغ الشخص أقدم مستويات ارتباطه بالحياة، يتمكّن من العودة إلى أعلى مستوى تطوّري، إلى مستوى إثبات الحياة بإنسانيّته. ومن الهام أن نلاحظ هنا أنّ هذا التعطّش للقتل ـ كما سبَقَ وذَكَرت ـ مُختَلِفٌ عن حب الموت، الذي وصفته في الفصل الثالث. فالدم هنا يُختَبَرُ باعتبارهِ جوهر الحياة. وأن تُريق دم شخصٍ آخر يعني أن تُزوّد الأرض الأم بما تحتاجه لتصبح خصبةً. (قارِن ذلك مع اعتقاد الآزتك بضرورة إراقة الدّم كشرطٍ لاستمرار عمل الكون، أو قصّة قابيل وهابيل). ويصحُّ ذلك حتى على إراقة المرء دمه هو، حيث يخصب الأرض، ويَتّحِدُ بها.
يبدو أنه عند هذا المستوى من النكوص يغدو الدم مكافئاً للسائل المنوي. والأرض مكافئةً للمرأة ـ الأم. وتعبِّر النطاف ـ البيوض عن قطبيّة الذكَر ـ الأنثى، وهي قطبيّةٌ تصبح مركزيّة ًفقط عندما يبدأ الإنسان بالظهور من الأرض بشكلٍ كامل، إلى حَدٍّ تصبح فيه المرأة موضوعاً للرغبة والحب11. تنتهي إراقة الدّم بالموت. في حين تنتهي إراقة النطاف بالولادة. إلا أنّ هدف الأوّل هو ـ كما الثاني ـ إثبات الحياة، وإن كان ذلك بالكاد فوق مستوى الوجود الحيواني. وهنا سيصبح القاتل هو المُحِب إذا تمَكّنَ من الولادة الكاملة، وتخلّص بالكامل من ارتباطه بالأرض، وأخيراً: إذا تخطّى نرجسيّته. ومع ذلك لا يمكننا أن ننكر أنّه إذا ما كان عاجزاً عن ذلك، فستحتجزه نرجسيّته وتعلّقه البدائي في طريق حياةٍ قريبٍ جدّاً من طريق الموت، إلى حد يغدو معه التمييز بين المتعطِّش للدّم ومُحِب الموت شبه مستحيل.

الصفحات