أنت هنا

قراءة كتاب على جناح الطير - سيرة المدائن

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
على جناح الطير - سيرة المدائن

على جناح الطير - سيرة المدائن

هذا النص حلم بكل "سميحة" كنتها، ولكن المخاتل والخطير، أن واحدة فقط، هي التي صارت عليها تلك الكثيرات، واحدة فقط تكتب عنهن، عن لحظاتهن، عن أماكنهن وأزمانهن، هي أنا، لن يكون عدلاً صياغة عوالمهن المدفوعة بحب اكتشاف الحياة وفق نظرتي التي تصور لي أنني أعرف أكثر،

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

مقدمة

حكاية السفر

على سفر فوق كراسينا وعلى مخداتنا، نمخر عباب الحياة، ندخل من باب ونفتح باباً يقابله؛ ونخرج، هكذا تنقضي رحلة السفر، يتبقى منها صدى أشبه بالوشيش، صفير قطار متوهم، متأهب دائماً للإقلاع، ولكنه الأكثر سيطرة على الحواس، ولأني مولعة بتفقد المسافة القصيرة المحدودة بين البابين، باب الدخول وباب الخروج، فإني أستمع بانتباه وفضول إلى صفير قطاري.
لي عقل محير بين شتى التفاصيل، رغم سرعة الرحلة وانقضائها، ربما على غير ما نحب، وربما كما أردنا لها وسعينا، سيان، فنحن يقيناً نلهث وراء السعادة، يحلو لنا تعليقها حلماً على أهدابنا، أمنية لا ندركها، ولا نستسلم في البحث عنها، وقد وجدت في هذا السعي الوهمي خلاصي من التعاسة، بمعنى أدق؛ كانت السعادة على الطريق، لا في الوصول، عثرت في دربي على سعادة جزئية؛ متخيلة أو حقيقة، لست أدري، ولكنها مؤثرة فاعلة في نفسي.
أسأل: كيف يتحسس السهم دربه وهو منطلق بسرعة نحو الهدف!
لعل بلوغنا خط النهاية في رحلة الحياة وسفرها يلغي كل ما مضى، مثل ضربة موجعة توقع سطراً أخيراً في دفتر حياتنا، وتعتقد أنها انتهت منا، والتفتت لسوانا، كأن كل الأماكن التي مررنا بها لم تكن، كأن الزمان انقضى، كأننا ما وُجدنا، يروعني أن أمضي قبل فتح جعبة الحياة للعيون القادمة بعدي، لا أحبذ طمر الذخائر التي لملمتها على الطريق، ولكني أستمتع بنبشها، معنية بتعبئة النفس بكل الثقل الحسي الذي مر بها في زمان ومكان مختلفين.
استعادة كامل اللحظة وبهائها عبر الكتابة يؤشر أن أجزاءً من النفس تباعدت وتغيرت، لكنها لم تمت، لعلها ذخيرة الحياة الأخرى، تلك المعارف والرؤى والأحاسيس التي لا نريد لها أن تموت، نقبض عليها بعقولنا وذاكرتنا، شعلة لا تنطفئ، تؤثث البرزخ المجهول.
في السفر، يكبر السؤال في خاطري؛ خاصة والطائرة تخترق الغيوم كأنها تمر بسديم، هل ما حولي ماء أم ثلج، أم إنه محض تخيلات أرتقي بها فضاء الحياة؟ ولو قمت بعملية حسابية صغيرة بين سنوات عمري، والمرات التي أتيح لي السفر فيها معتلية السحاب، لربما كنت أسافر مرتين في العام، أنشلع من محيطي الذي أعيش فيه، وأمثلُ في مسرح جديد من مسارح الحياة، يختلف الديكور، والبشر، ورائحة الهواء، وتتعدد الثقافات وأنا أمتص رحيق التجربة مثل نحلة شرهة، تتعلم أن تصنع عسلاً.
أدعي إني منذورة للسفر منذ اللحظة الأولى التي استنشقت بها هواء عمان في المستشفى الإيطالي، وأثناء الرحلة القصيرة التي حملتني فيها أمي إلى بيت طفولتي الأول في منطقة المحطة، كنت مسافرة قادمة من غيب، وأصغيت إلى شهيق القطار وزفيره، ربما كان قطار عمان قد توقف في ذلك الزمان، ولكن الأذن البدائية القادمة بخبرات فطرتها، تلتقط صهيله عبر أزمنة مضت، لما كانت في المكان سكة وهيكل قطار قديم؛ وَقَرَّ في وعي الرضيعة البعيد، إنها قادمة لتسافر.
علمني السفر محبة كل أرض تطأها قدماي، فليس في الزمن فسحة لغير متعة المحبة، وليس للعين إلا ما رأت من جمال الدنيا وتنوعها، وليس للنضج أن يكتمل إذا لم أشرع شبابيك القلب والعقل لكل ريح تهب، وتمنحني معرفة وفرحة، وزمناً عزيزاً غالياً.
زرت مطارات كثيرة، وامتطيت طائرات أكثر، جلست في مقاعد وثيرة في الدرجة الأولى، وأخرى ضيقة في الدرجة السياحية، سارت تحتي أراض وبحار، شاهدت الغابات سوداء مدهامة، والبحار أكواناً لا حدود لها، والموج مثل طعجات في قلب الماء، والغيم يلعب جوار النافدة؛ بينما يخترق جسد الطائرة السماء، لاعبتني الشمس عن يساري وعن اليمين؛ وصاحبني القمر وأنا أقطع القارات في الجسد المعدني الصلب، علمني السفر أن الجمال الحقيقي لا يعطي نفسه للوهلة الأولى، إنه يتقشر رويداً رويداً، يجود مثل ديمة المطر، أوله قطر؛ ثم ينهمر، مثل دودة تصير فراشة.
بعد أن باتت ربلتا قدمَيّ "تنمّلان" في السفر الطويل، وأصبح مقعد الطائرة في الدرجة السياحية ضيقاً، أو أني ازددت وزناً، لم أفقد شغفي بالسفر، حين تتفتح لي نوافذ الأمكنة أفرح كما لو أني كسبت المليون أو يزيد، هو شعور بالكسب المعنوي، ولكن المفاجأة التي حملتها لي سفرة قريبة، كانت في حجرة فندق استضافني لأيام في مدينة طرابلس الليبية.
أتخفف من قيود كثيرة في حجرات الفنادق، أتصرف بحرية، قد أخلع ثيابي غير عابئة بالمرايا التي تُكثر منها الفنادق، ولا أعرف أية ثقة جعلتني أظن أني أعرف أقرب الأشياء إلي، جسدي، لا أتوقع فيه تفصيلاً مجهولاً، لكني في تلك الحجرة الليبية، نظرت بدهشة إلى زندي الأيسر، كأني أراه للمرة الأولى، شاهدت علامتين رافقتاني معظم عمري، لكني لم ألتفت إليهما من قبل، في أعلى زندي هناك أثران طفيفان لإبرة التطعيم التي نلتها وأنا طفلة، دائرتان متجاورتان لهما لون جلدي، لكنهما رسم منفصل، لم تكن إبر التطعيم رحيمة كما اليوم، إذ تترك دوائر كبيرة أو صغيرة وفق براعة الممرضة، وأتذكر أن النساء من جيل أمهاتنا كن ينصحن بتطعيم بناتهن في أعلى أفخاذهن؛ حتى يوارين الآثار الظاهرة، ولكن أمي لسبب مجهول تركت الممرضة تغرز إبرتها في أعلى ذراعي اليسرى، وقد قضيت مراهقتي وشبابي أرتدي ما يكشف عن ذراعي، وكانت لي مرآتي في حجرة النوم في عمري كله، ولم ألتفت للأثر ولا مرة، ولكني بعد نصف قرن من الترحال رأيته؛ خيل إلي أن هذا الوشم يشبه تماماً الوشم الذي تتركه المدن في الذاكرة والنفس، وأني أعيش غير ملتفتة لتلك التذكارات الغنية التي أحملها مثل وشم، وأن صوتاً يناديني لتفقد تلك الأوشام والهدايا التي تنتظر اكتشافي لها على زند الروح.

الصفحات