هذا الكتاب "لبنان من دويلات فينيقيا إلى فيدرالية الطوائف - الجزء الأول" من هذا القلق، ومن تساؤلات محيّرة، كمثل:
- لماذا يحار اللبناني في هويته؟
- لماذا لا يستطيع اللبناني، منذ فينيقيا، أن يؤسس دولة قوية موحدة؟
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
هذا الكتاب "لبنان من دويلات فينيقيا إلى فيدرالية الطوائف - الجزء الأول" من هذا القلق، ومن تساؤلات محيّرة، كمثل:
- لماذا يحار اللبناني في هويته؟
- لماذا لا يستطيع اللبناني، منذ فينيقيا، أن يؤسس دولة قوية موحدة؟
بكائية لا بد منها
منذ فجر التاريخ كانت فينيقيا. وفينيقيا حقيقة في التاريخ. وجبل لبنان هذا قلب فينيقيا، وإن لم تبدأ فينيقيا في هذا الجبل! إلا أن لبنان عكس فينيقيا، ولأن فينيقيا كانت مفعمة بالغموض، هكذا شاءت! فقد بدت للعالم أخاذة، ولعل هذا ما لم تُرده، لكأن الجاذبية تجلب الصداع! وهذا ما تحاشته الجدة، وهذا ما حدث!
منذ مئة مليون عام((1))، أشرقت الشمس على جبل تيث (لبنان)، فانتصب منتظراً من يبارك ترابه، ولم يكن يتوهم كثيراً! فلم يكن يومها مخترع المظلة قد وجد بعد، وحده الزحف البسيط أصبح متاحاً، ولو بعد حين! ولا يعلم أحد متى جاءت البذرة الأولى لتنغرس في تربته، جاهلة أن الوهم والقلق سينموان معها إلى ما شاء الله!
ومنذ خمسين ألف عام((2)) ترعرع هنا إنسان أنطلياس، ومات ولم يترك أخباراً! وحدها العظام بقيت شاهدة على وجوده – عبوره. لكن شيئاً لم يدلنا على فرح أو قلق، أو وهم. ولم يترك أثراً في الصخر، أو التراب، ولا الرمل! يدل على الجهة التي منها قدم، لكنه لم يأت به البحر يقيناً، ولم يهبط من السماء!
ولبنان هذا امتداد في الجغرافيا، وله اتصال في التاريخ، وفي التاريخ تسطّر الأحداث، وفي وعاء الجغرافيا تطبخ. وإذا كانت الجغرافيا تلزم بالجيرة، فلزوم الصبر على متاعب الجيرة أمر واجب، وإلّا فاحزم متاعك وامض! علق صخرتك في نجم، أو اجعلها مقلعاً لأحلامك. عدا ذلك، عليك الانخراط في هموم التخوم، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وما دام الترابط وثيقاً، فلماذا عناء البحث بعيداً؟ يكفي أن تنظر إلى غيمة تقطر ماءها فوق رأسك، وفوق رأس جارك، فإن لم تبرِّد أحدهما، فالعاقبة للمتقين!
قد لا يكون لبنان - الملجأ بؤرة طبيعية للقلق، إلا أنه لم يستطع - على توهم انعزاله - أن يؤمّن الأمان الواثق لمن توهّم! وقد لا يكون لبنان - الإنسان هو مخترع الاضطراب في هذا الشرق، إلا أنه لا يستطيع أن يبرئ نفسه، كشاهد على الأقل! ولا أن يدعي البراءة، رغم أنه هرب ذات يوم، إما من اضطراب صنعه؛ وإما من اضطراب أزعجه، لكنه رافقه، أو لحق به! فماذا يفعل؟
والجغرافيا، هذا الوعاء الذي يحمل جلّ الأهمية، هي المكان الذي بدونه لا يحصل التاريخ. ولأن فينيقيا - لبنان، موجودة على شرخ زلزالي طبيعي يمتد من خليج إيسوس (الإسكندرون)، مروراً ببحر الملح (الميت)، وصولاً إلى بحر القلزم (الأحمر)، شاء القدر أن يكون هو ذاته شرخ الزلازل السياسية التي تعصف بالمنطقة منذ بدأ صراع المكونات الأولى للأمم في الشرق. وعبر هذا الشرخ يكون المعبر الإلزامي للفرار، والثروات، والأزمات السياسية، وللجيوش.
ولعنة الجغرافيا، أو حسن طالعها، ليست أحادية الجانب، وليس اللبناني ملاكاً! وإن كان يفتش في كل مرة عن آخر يحمِّله، أو يحمل عنه، تبعات وجع الرأس الملازم. وما دام الأمر كذلك، وما دام هو لا يريد أن يغادر، وإن غادر فيبقى رأسه مزروعاً في حقل مشاكله الذي غادره، فلماذا القلق؟
واللبناني صاحب ذكاء، وصاحب طموح، ويبدي الكثير من الصبر رغم ضيق الصدر! إلا أنه دائم الشكوى، جم الصراخ. وهو يتعلم كل شيء، ويجهل التعلم من تجاربه! حائر محيَّر، مُجبر مخيَّر.
لماذا لا يعرف اللبناني الاستقرار؟ ولماذا لا يتقن فن الاتحاد؟ ورغم هذا وذاك، يريد أن يكون علامة مميزة، وربما هو كذلك! مؤثر هو، وشديد التأثر هو، لكنه كأنه لا يستطيع أن يتحمل مسؤولية ما يصنع، ومن أهم ما يحب أن يصنع، وما يفشل - على الأقل حتى اللحظة - هو أن يكون صاحب دولة! وللدولة شروط يجب تحقيقها حتى تتحقق، وأولها المصلحة العليا، وهذا ما يفتقده أصحاب الجبل، منذ الأزل!
ميزتان قلقتان، ملازمتان للذهنية اللبنانية: الهوية والعلاقة. ورغم أننا من أشد خلق الله خليطاً في هذا العالم، تجد بعضنا - من أصحاب القلق - يعيدوننا إلى أصل واحد، أو يطيرون بنا بعيداً إلى ما وراء الماء المالح. ورغم صلة التراب والحجارة، فإن بعضنا - أصحاب الشكوى - يهربون بنا إما إلى طلب نجدة بعيدة، وإما الخضوع إلى مسيطر قريب! ولعل القوي البعيد يستغل فطرتنا في لحظة حاجة، أو أن الجار القوي يتبرم منا لشدة اضطرابنا، فيدير الظهر، أو يضيق صدره فيضمنا تحت جناحه، ولكننا لا نتقن السكينة، فيعيد لفظنا!
أمّا في الدين فحدّث! لقد حيَّر اليهودُ الله وأنبياءه، أما نحن فقد حيَّرنا أنفسنا والعالم! فالإيمان عندنا مسألة نسبية، ومصلحة لا يغيّرها فينا الله ما لم نرحم أجيالنا فنغيرها!
ولكن يبدو أننا لسنا غرباء في هذا المحيط. فمن جبلةٍ هنا صُنِعنا، وإلى التراب أو الرمل المديد هذا نعود.