أنت هنا

قراءة كتاب النقد الذاتي بعد الهزيمة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
النقد الذاتي بعد الهزيمة

النقد الذاتي بعد الهزيمة

كتاب " النقد الذاتي بعد الهزيمة " ، تأليف صادق جلال العظم ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2007 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 3

راهن الهزيمة/ راهنية الكتاب النقدي

قبل أربعين عاماً عاش العالم العربي هزيمته الكبرى في القرن العشرين، التي استأنفت، في شروط مغايرة، هزيمة محمد علي باشا في القرن التاسع عشر. أراد صادق العظم، في كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، أن يحلّل أسباب الهزيمة، وأن يقترح، نظرياً، ما يردّ عليها، قبل أن يدرك، مثل كثير غيرها، أنّها هزيمة متوالدة، لا تصدر عن "مؤامرات خارجية"، بل عن عجز عربي مقيم، تتوازعه الشعوب والسلطات معاً. وهذه الهزيمة المتوالدة، التي تردّ على كل هزيمة بهزيمة جديدة، هي التي تجعل من كتاب د. العظم يحتفظ براهنيته، وإنْ كانت تحوّلات الهزيمة إلى "ظاهرة طبيعية"، تقضي بأسئلة جديدة.

ينطوي هذا الكتاب، الذي تأمل هزيمة الخامس من حزيران عام 1967، على شهادات ثلاث: شهادة أولى على نبل الفكر النقدي واغترابه، وشهادة ثانية على بنية اجتماعية عربية محكومة بركود يتاخم الاستنقاع، وشهادة ثالثة على مآل قضية فلسطينية، عُرفت بـ "قضية العرب الكبرى"، ذات مرّة. وسواء كانت هذه الشهادات الثلاث منقوصة، أو غير منقوصة، فإنّها تشير إلى واقع عربي جدير بالرثاء، أعطاه الاقتصادي المصري د. فوزي منصور، قبل سنوات، صفة محدّدة هي: "خروج العرب من التاريخ".

ينتمي صادق العظم إلى عقول عربية قليلة حوّلت الثقافة إلى مداخلة نقدية، تتعامل مع القضايا الاجتماعية ـ الوطنية المعيشة، بعيداً عن التجريد المدرسي، وبعيداً أكثر عن "أوهام الأصالة" و"فضائل الخصوصية" ذلك أنّه أدرك أن العالم العربي يعيش، شاء أم أبى، في زمن كوني، وأنّ الزمن الأخير يقارن بين منجزات شعب وآخر، دون أن يلتفت إلى "أمجاد قديمة"، حقيقية كانت أو متوهّمة· تتكئ المقارنة النقدية، التي مارسها "الفيلسوف التربوي"، على عقل برهاني يعتمد المقارنة، مؤكداً أنّ جدارة كل مجتمع تقاس بجدارة مجتمع آخر، لأنّ المجتمعات الإنسانية لا توجد فرادى. وهذا التصوّر، الذي لا يتوقف كثيراً أمام العنصرية الصهيونية وآلة الحرب الإسرائيلية القاتلة، فهي أمور لها شكل البداهة، هو الذي يأمر العقل النقدي بالمقارنة بين مجتمع استيطاني حديث ومجتمع عربي "ينوي التحرير"، مكتفياً بالتقليد وإعادة إنتاج التقاليد. اعتماداً على مبادئ العقل النقدي، تأمل صادق العظم أسباب هزيمة حزيران، ونقد، لاحقاً، "الممارسة والنظرية" في المقاومة الفلسطينية، وقارب " الحقبة الساداتية"، وأعطى رأياً في علاقات المعتقد الديني بالمتخيّل الروائي، وساجل وحاور قدر ما استطاع. كان فيما ذهب إليه، مصيباً كان أو محدود الإصابة، واضحاً، لا يعرف التلعثم و"المجاملات النظرية" متسقاً، لا يميل إلى المواقف الموسمية. أراد في مساهماته النظرية ـ السياسية أن يكون مثقفاً حديثاً، يربط بين المعرفة الأكاديمية وأسئلة الحياة، وأن ينظر إلى أفق مجتمعي مغاير، ينقض القديم بالجديد، ويواجه استبداد العادات المتوارثة بيقظة العقل المتجدّدة. مارس نقده حرّاً، رافضاً تبرير الهزائم القاتلة باسم شعارات مستقبلية، ورافضاً أكثر وضع مسؤولية الإنسان خارجه، ذلك أنّ المستقبل محصلة لتصرّف الإنسان بالحاضر. بل أنّ الحاضر المعيش هو الزمن "الجوهري" الوحيد، فهو ما انتهى إليه الماضي وهو الذي يتخلّق فيه المستقبل. وكشف في ممارساته النقدية الحرّة عن العلاقة الوثقى بين العقل والحريّة، لأنّ العقل يتكوّن في حرية الرفض والقبول والاختبار، منتقلاً ممّا يعرف إلى ما لا يعرف، على مسافة شاسعة عن عقل متكوّن مستقر، قطع معه صادق العظم قطيعة كاملة.

ومع أنّ العقل الإطلاقي المتكلّس، الذي يرتضي بالعادة ويقدّسها، يستطيع أن يغدق على العظم صفات التطاول والمروق والعبث بما لا يجوز العبث به، فإنّ البرهان الجلي على ما قال به قائم، إلى حدود الفضيحة، في واقع عربي متداع، يعيد إنتاج بؤسه، محقِّقاً ما يُدعى اليوم بـ "الاستثنائية العربية"، أي تفرّد المجتمعات العربية برفض قواعد الحياة الديمقراطية. وواقع الأمر أنّ هذا "التفرّد" الذي لا يقبل به الحس الإنساني السليم، هو الذي صيّر كلّ معركة عربية هزيمةً، وكل هزيمة مقدّمة أكيدة لهزيمة لاحقة.

في مطلع القرن العشرين، عام 1906 تحديداً، أصدر نجيب عزوّري كتاباً، حظي ببعض الشهرة عنوانه: "يقظة الأمّة العربية" فسّر الكاتب الذي كان صحفياً نشيطاً، رثاثة الوضع العربي بالسيطرة العثمانية، مؤمناً بأنّ التحرّر من هذه السيطرة مدخل إلى زمن ذهبي جديد، يعيد للأمّة مجدها الغابر، ويتيح لها أن تلحق هزيمة كاسحة أكيدة بمشروع جهنمي قادم هو: المشروع الصهيوني. رحل العثمانيون وازداد الوضع العربي تداعياً، إلى أن جاء قسطنطين زريق، في أوائل العقد الخامس من القرن الماضي، ووضع كتابه "في الفكر القومي"، معتبراً أنّ أفق العالم العربي السويّ مرتبط بمشروع قومي عربي متبلور. وما أن جاء سقوط فلسطين ـ 1948 ـ حتى رُحّلت المسؤولية إلى التجزئة العربية و"الأنظمة المتواطئة"، التي أسقطتها، سريعاً، حركة شعبية، جاءت بأنظمة وعدت بالقضاء على التخلّف والتجزئة وجعلت من استعادة فلسطين "قضية العرب الكبرى في كل مكان". أما الاختبار الأعظم لـ "جوهر العروبة"، فأتى مع هزيمة حزيران، التي أعطت "القضية الكبرى"، في أطوار متراجعة متتابعة، مسميّات متلاحقة: الصراع العربي ـ الإمبريالي، الصراع العربي ـ الصهيوني، الصراع العربي ـ الإسرائيلي، الصراع الفلسطيني والإسرائيلي، وصولاً إلى "اتفاق أوسلو"، الذي اختزل "فلسطين التاريخية" إلى جملة سجون صغيرة متجاورة. والواضح في هذا كلّه أمران: تجدّد الهزائم في شروط اجتماعية ـ سلطوية مختلفة، وإعادة إنتاج علاقات التخلّف بشكل متجدّد، بما يسمح بهزائم متوالية، "تخرج العرب من التاريخ".

الصفحات