أنت هنا

قراءة كتاب صور في ماء ساكن

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
صور في ماء ساكن

صور في ماء ساكن

كتاب "صور في ماء ساكن " ، تأليف سلوى جرّاح ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
 

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

ولدت في بيت الأسرة في حي المنصور ببغداد، لأن أمي التي أنجبت قبلي شقيقيَّ توفيق وسامي، كانت تعرف من تجاربها السابقة، أن ولادتها سهلة، سريعة، لا تحتاج للمستشفى وقيوده· بعد أقل من ثلاث ساعات، سمع أبي الخبر، الأم والبنت بخير· كان مولد بنت خبراً سعيداً جداً· كان يتشوق لابنة· حملتني إليه خالتي فوزية شقيقة أمي الكبرى وهي تقول فرحة: (أبو توفيق شوف البنية، شوفها شگد حلوة) أخذني بين ذراعيه، تأمل وجهي لحظة ثم همس: (بديعة) عادت خالتي تردد: (صدق ما شاء الله مثل القمر تشبه أمها) عاد يتمعن في ملامح وجهي وهو يغالب دمعه: (بديعة، بديعة) كنت طفلة جميلة، أعرف أنه من غير اللائق أن أقول ذلك، لكنني عشت عمري أدرك أني جميلة، فكل من حولي كان يكرر ذلك· سار بي أبي إلى الغرفة التي ترقد فيها أمي، قبّل جبينها، وضعني على صدرها وهمس: (الحمد لله على سلامتك وسلامة بديعة)·

أبي عبدالرحمن محمد الكيّال، كان تاجر أقمشة يمتلك محلاً كبيراً في شارع النهر ببغداد، شارع التسوق الذي يعرض كل ما تحبه النساء من أقمشة وأحذية ومصاغ وملابس داخلية وأدوات زينة· كان محل أبي بواجهة زجاجية كبيرة وفيه أنواع الأقمشة الفاخرة و(الكوبونات)، وهي قطع متفردة من الأقمشة الغالية تأتي كقطعة واحدة من مترين وليس كجزء من لفة القماش الكبيرة التي تحوي عشرات الأمتار· كان في المحل عمال يُنزلون البضاعة لتتفرج عليها السيدات· يفرشون القماش على الطاولة أمامهن، فتتلمسه الراغبة في الشراء بحب وإعجاب ثم تقول: (عيني أبو توفيق كُلّش غالي) فيرد أبي بصوته الرزين وهو يجلس في مكانه خلف مكتبه قرب باب المحل: (هاذا دانتيل إيطالي، غسل ولبس، مو بضاعة رخيصة) وبعد أخذ ورد تقول المرأة بدلال موجهة حديثها للعامل الذي يقف صامتاً صبوراً خدوماً: (يلله دقصلي ثلاث ياردات) فيقيس العامل القماش على مسطرة حديدية طويلة ثم يضيف بضعة سنتمترات وهو يتمتم (مبروك)·

كان أبي رجلاً وسيماً، بوجهه الأسمر دقيق الملامح، وقوامه الرشيق كنجوم السينما· كنت أحب كثيراً أن أراه في بدلته الغامقة وقد علّق ساعته الذهبية ذات السلسة العريضة على جيب سترته· في طفولتي، كثيراً ما اصطحبني في الأماسي إلى محله· كان يشتري لي الحلوى، ويعطيني بعض قصاصات الأقمشة الجميلة لتصنع لي منها جدتي ملابس للعبتي، وحين أعود للبيت تسألني أمي عن السيدات اللاتي زرن المحل، فأستعرض لها كلامهن وضحكاتهن وملابسهن ومشترياتهن، وأريها ما رسمته عن المحل، فتروح تتضاحك وتضمني وهي تقول: (يمه اشْحَلاتج)(1)·

أمي، فريدة حجي فتاح، هي التي كانت جميلة حقاً وكان الكل يقولون إني أشبهها· طويلة هيفاء القد، بشرتها الحنطية التي أورثتني، فيها شفافية عجيبة· الطريف أن اسمها جاء أيضاً بسبب ملامحها المنسقة، فريدة· أمي امرأة عاملة، مدرسة اللغة العربية في إعدادية حكومية للبنات في منطقة المنصور، تعتبر من أفضل المدارس الإعدادية في بغداد، عرفت بحزمها واهتمامها الشديد بطالباتها· كنت أراها تصحح أوراق الامتحان ودفاتر الواجبات المدرسية، وهي تجلس إلى مكتب صغير في غرفة نومها ولا تسمح لأحد بمخاطبتها في أثناء عملها· كان أبي يبتسم ويقول: (اتركوا الست فريدة تنجز واجباتها) أمي من جيل من المدرسات اللاتي قدمن كل ما في قدراتهن لمهنة التدريس، ولعل ذلك يفسر الطريقة التي تكونت بها أسرتنا، وتباعد الفترات الزمنية بين أعمارنا·

شقيقي توفيق كان في الثامنة حين ولدتُ، وبمجرد أن تعلمت المشي، صار يأخذني معه، حين يزور بعض أصحابه المقربين، ليريهم جمال أخته الصغيرة بديعة، بثوبها الاورگانزا الأزرق وشعرها الأسود اللامع وعينيها الواسعتين الكحيلتين، وليسمعهم كيف تناديه (توفي) كنت أعود من تلك الزيارات بهدايا صغيرة وأكياس من الحلوى والشوكولاتة· شقيقي سامي الذي يكبرني بثلاث سنوات، كان يشتري لي من مصروف جيبه وروداً ملونة من (الباغة)(2) لتزيين شعري، ولعباً صغيرة لقرود وكلاب لها مفتاح صغير ما إن أديرها، حتى تتحرك وترقص وتدور حول نفسها فيتعالى ضحكي·

كنت مدللة الجميع، وبهجة البيت، الكل كان يردد عبارة واحدة (بديعة الحلوة الحبّابَة) مهما فعلت· كان يومي حافلاً وإنْ لم يكفني استعرت من غدي· ولم يكن أحد يمانع، أو يعترض· طلباتي أوامر، تلبى بعجالة وإلا انطلقت في بكاء يحير ويربك كل من حولي· أعترف أنني لم أكن أفهم سر حيرتهم وارتباكهم، فالبكاء لم يكن سوى لعبة أمارسها ولم يكن يتعبني أو يحزنني· الحكاية وما فيها أنني أدركت من البداية أن بكائي سلاح فعّال، يجعلني أحصل على كل ما أريد، فانتهجت سياسة البكاء، كأي سياسي محنك، وتوطد حكمي· كنت أنجح في كل مرة، ما إن أبدأ بالبكاء حتى تلبى كل طلباتي·

الوحيدة التي لم يكن يعنيها بكائي كانت جدتي لأبي، بيبي أم عبدالرحمن· كانت تجلس صامتة ترقبني وهي تدخن سجائرها· ثم تشيح بوجهها عني وتزم شفتيها، فأتساءل لم لا تهتم بدموعي وصراخي؟ كنت واثقة أنها تحبني وأستشعر حبها في كل ما تفعله، خاصة حين تخيط للعبتي الكبيرة ذات الشعر الطويل، ملابس عراقية تقليدية، عباية وهاشمي وصاية، تصنعها من الأقمشة التي يحضرها لي أبي من محله التجاري· كانت تجلس تخيط الملابس وهي تدمدم كلمات موزونة فيها موسيقى وكأنها أغنية· مع الأيام، أدركت أنها ما يعرف (بالدارمي)، الشعر الشعبي الذي ترتجله النساء في جنوب العراق· لكن رغم كل إبداعاتها، كانت لامبالاتها ببكائي تحيرني، ولا أستطيع أن أفهم سر خروجها عما اعتدت من كل من حولي، أمام جبروت دموعي· بعد سنين أدركت أن بيبي أم عبد الرحمن هي أقرب الناس إليّ، وأكثرهم فهماً لكل ما يدور في تلافيف عقلي، ومكمن الأسرار ومنبع الاطمئنان، ومصدر غني للمعلومات والخبرات·

مع الأيام توقفت عن البكاء، لم أعد أحبه· بل لم أعد أبكي بسهولة، صارت دمعتي عزيزة رغم أني بكيت كثيراً على مدى سنين العمر، رغماً عني، لا لأستدر العطف، بل لأن الحزن استدر مني الدموع·

الصفحات