أنت هنا

قراءة كتاب المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية

المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية

كتاب " المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية " ، تأليف د. عبد القادر عرابي ، والذي صدر عن دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر عام 2014 .

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
دار النشر:
الصفحة رقم: 4

المنهج الكيفي
توطئة
ما المنهج الكيفي؟ وما الأسباب التي دفعت إلى تطوره بشكل مضطرد في العقود الأخيرة؟ ولماذا المنهج الكيفي؟ وما تاريخه، وسماته؟ ولماذا ازدادت أهميته في نهاية مرحلة الحداثة[75]، بعدما تميزت الحداثة بإمبريالية الوضعية ومناهجها الكمية؟ وما الذي يميز البحث الكيفي عن الكمي؟ ثم ما أوجه النقد الموجهة للمنهج الكمي؟ وما المضامين المنهجية لكل من البحث الكمي والكيفي؟ ثم ما أسسه النظرية والمعرفية والمنهجية؟ وما مستقبله بين العلوم في ما بعد الحداثة؟
وبالرغم من أن مناهج البحث الكيفي قديمة جداً في العلوم الاجتماعية؛ إذ يرجع عديد منها إلى القرن التاسع عشر، كالمنهج الهرمينوطيقي عند شلايرمخر ودلتاي وفيبر ومؤرخي القرن التاسع عشر، والمنهج الفينومينولوجي عند هوسرل... إلخ، إلاَّ أن معظم الدراسات المعاصرة ترجعه إلى العقود الأخيرة من القرن العشرين، وتكاد تحصره بالتفاعلية الرمزية والظاهراتية والإثنوميثودولوجيا، علماً بأن تاريخ البحوث الكيفية أقدم من ذلك بكثير. بالطبع، إن التفاعليين الرمزيين والإثنوميثودولوجيين مهمون جداً لهذا المنهج، خصوصاً وأنهم ينحدرون من المجتمع الأميركي، موطن المناهج الكمية، لكن الحقيقة هي أن المناهج الكيفية نهضت وتطورت في أوربة، حتى صار بعض يعتبر المنهج الكمي هو المميز لنظرية العلم الأميركية، فيما تميز المناهج الكيفية نظرية العلم الأوربية[76]. فضلاً عن ذلك، نجد أن عتاة المنهج الكمي، مثل دوركهايم وغيره - ممن لعبوا دور الرأسمالي النظري بالنسبة إلى جماهير الاختباريين البروليتارية[77]-، اعتمدوا كثيراً على الملاحظة والمنهج التاريخي المقارن في دراساتهم. لقد كانت المناهج الكيفية حاضرة دائماً في البحث العلمي، ولم تكن وقفاً على الإنتروبولوجيا، وعلم النفس والتاريخ والاجتماع، وإنما كادت تغطي مساحة واسعة من البحث الاجتماعي في العلوم الإنسانية، ولذلك فإن ما يزعجني كثيراً في الكتابات المتخصصة هو غبنها حق هذه المناهج وحصرها في بعض الدراسات، كأن تقف عند دراسة الفلاح البولندي polish Peasant » لتوماس وزنانيكي (1918-1920) W Znanieck. Thomas and F .
ودراسة أدورنو وهوركهايمر عن (الشخصية التسلطية)[78] ، ثم تقفز فجأة إلى المدارس الأمريكية الحديثة، دون أن نجد عرضاً منهجياً وتاريخياً ونظرياً، يغطي تطور هذا المنهج على مدى التاريخ وقدراته التفسيرية ومزاياه مقابل المنهج الكمي. ولربما يعود ذلك إلى أن الصراع المرير الذي خاضه رواد هذا المنهج ومدارسه، كالمدرسة الفينومنولوجية، والهرمينوطيقية، والتاريخية، قد تراجع في القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الأولى، ليحل محله ما عرف بالخلاف المنهجي، الذي لم يكن تطويراً للمناهج، قدر ما كان صراعاً إيديولوجياً بين مدارس علم الاجتماع، وانعكس ذلك سلباً على المناهج الكيفية في أوربة، فيما تطورت المناهج الكمية في أميركا، إلا أن الحقيقة، هي أن الحرب العالمية الثانية قد خلطت الأوراق، بعدما قضى بعض من رواد هذا المنهج، وهاجر بعض آخر منهم في هذا العالم، مثل كارل منهايم، وروّاد مدرسة فرنكفورت وغيرهم، وصاروا يعيشون في ما بين العوالم. لقد كانت هجرة الفكر والمفكرين إلى أميركا هي السبب في نشأة العديد من المناهج الكيفية وتطويرها في أمريكة. ولم يكن لهذه المناهج أن تتطور، لولا أولئك المهاجرون الأوربيون من أمثال لاتسرزفلد، وألفرد شوتس، وأدورنو ومنهايم ومركوزه.. إلخ.
ولم تفلت المناهج العلمية من التأثيرات الإيديولوجية في القرن العشرين، إذ صارت محسوبة على هذا المعسكر أو ذاك. فحل التصنيف الإيديولوجي بدلاً من البحث العلمي الرصين، وصارت الحقيقة، التي ينبغي البحث فيها، هي الضحية. لقد ذبحت الحقيقة على قربان الصراع الإيديولوجي، بعدما تداخل البحث العلمي مع الصراع الإيديولوجي، والدليل على ذلك أن منهج الفهم والمنهج التاريخي عند فيبر لم يُنظر إليهما من حيث العمق والرؤية الكلية الفاهمة والشاملة وعرضهما لتجربة التحديث الأوربية، قدر ما صار يُنظر إليهما إيديولوجياً. إن الخلاف بين المنهجين الكمي والكيفي هو نتاج القرن العشرين والتطور التاريخي العلمي، وقد دار الخلاف مبدئياً حول رؤية الواقع، «فهل الواقع الاجتماعي خارج عن الفرد..... أم أنه نتاج وعي الفرد وضميره؟ هل هو ذو طبيعة موضوعية، أو هو نتيجة معارف الفرد؟»[79]، كما دار الخلاف حول القيمي وتقنيات البحث، ووحدة العلم والمنهج، أو تعددها، وحول تفسير البيانات انطلاقاً من خلفية الخبرات اليومية المعروفة، والمعرفة التاريخية، والتوجهات الاجتماعية الثقافية، ومحاولة فهم الواقع الاجتماعي من الداخل (بلومر) أم من الخارج؟.
إذا كان القرن التاسع عشر قد شهد نشأة مناهج البحث الكيفي وتطورها، فإن القرن العشرين حتى نهاية السبعينيات كان مرحلة الكمون والتراجع. لكن هذه الوضعية قد بدأت في التغير منذ بداية الثمانينيات من القرن العشرين، بعدما شهدنا عقم المذهب الكمي، والفقر النظري والمنهجي للعلوم الاجتماعية، فكانت حقبة الثمانينيات والتسعينيات مرحلة إحياء المناهج الكيفية وتدريسها في معظم الجامعات الأوربية تقريباً، وصار رواد هذا المنهج
يؤكدون على تميز هذا المنهج عن المنهج الكمي[80]، فلا ينظر إلى المبحوثين بوصفهم أشياء، ومجرد مقدمين لمعلومات وبيانات، تستخدم في التنظير - فهي نظريات عن الإنسان دون الإنسان - وإنما يعتبرون فاعلين ومتداخلين مع البحث[81]. فهذا المنهج يفتح اتصالاً مباشراً مع الإنسان، دون تعرج وتمويه، إنه دراسة للعوالم الاجتماعية بشكل مباشر، دون مسافات، بعكس المنهج الكمي الذي يعمق الهوة بين الباحث الاجتماعي والعالم الإمبريقي الاجتماعي[82].
إذا أراد علماء الاجتماع فهم السلوك الإنساني بشكل أفضل، فإنه يتعين عليهم، الدخول في علاقة مباشرة مع ظواهر العالم الإمبريقي الاجتماعي، بدلاً من خلق المسافات الكبيرة التي تفصل عنه[83]. وهذا ما تؤديه الملاحظة بالمشاركة غير المقننة، التي تفتح مدخلاً مباشراً إلى عالم الإنسان، بدلاً من المناهج الكمية التي تسد الطريق إلى الإنسان. يقول أندرسكي في كتابه Hexenmeister der Sozialwissenschaften (مشعوذو العلوم الاجتماعية): «إن المتشددين المنهجيين أشبه ما يكونون بالطباخين، الذين يعرضون علينا كل مواشيهم الجميلة، وعصائرهم، وماكينات العصير، وأشياء أخرى، دون أن يقدموا شيئاً ما يؤكل»[84]. لقد اشتد عود المناهج الكيفية، التي اعتاد بعضهم على وصفها بـ(المناهج الرخوة) مقابل المناهج الكمية الصعبة. وتبدو الدراسات الكثيرة في هذا الصدد مؤشراً على ثورة صامتة في العلوم الاجتماعية، تتجلى في احتلال المناهج الكيفية لمواقعها الطبيعية في العلوم الاجتماعية، فيما تخلي، أو تكاد تخلي، المناهج الكمية هذه المواقع. هذا النقد الشديد من قبلنا ليس تحيزاً للمناهج الكيفية، قدر ما هو تأكيد على أهمية هذه المناهج ودورها في قراءة الواقع. ولذلك سنتناول في هذا البحث مجموعة من المسائل والقضايا، وهي:
1- تعريف البحث الكيفي.
2- العوامل الاجتماعية والتاريخية التي أدت إلى إحياء هذا المنهج.
3- تاريخ البحث الكيفي.
4- لماذا البحث الكيفي؟
5- نقد مناهج البحث الكمي في علم الاجتماع.
6- خصائص البحث الكيفي.
 

الصفحات