كتاب " المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية " ، تأليف د. عبد القادر عرابي ، والذي صدر عن دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر عام 2014 .
أنت هنا
قراءة كتاب المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية
أولاً- تعريف البحث الكيفي
ما البحث الاجتماعي الكيفي الذي شغل الباحثين زمناً طويلاً، ودخل حروباً مريرة مع البحث الاجتماعي الكمي في القرن العشرين، خسر فيها كثيراً من المواقع الكيفية؟ وقد بدا للبعض في النصف الثاني من القرن العشرين أن علم الاجتماع قد خضع تماماً للهيمنة الإمبريقية الوضعية، كما وصفها الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل ( Husserl )، في نقده اللاذع للمناهج الوضعية، وهو أنها أصبحت مقطوعة الصلة بالإنسان وعالمه، وليس لديها شيء ما تقوله لنا في أزمتنا الحياتية؛ فهي تهتم بالأرقام لا بالإنسان، ولا تساعده في حل مشاكله الحياتية[85].
وللحقيقة يجب القول: إن الذين لم يستسلموا للوضعية، هم الفلاسفة، الذين خاضوا حرب مواقع مع الوضعية في مراحل مختلفة وبأسلحة مختلفة. ويشير هذا إلى حقيقة الصراع بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية، من جهة، وبين هذه والعلوم الطبيعية، من جهة أخرى، وهو الصراع حول هوية علم الاجتماع، وانتمائه إلى العلوم العقلية أو العلوم الطبيعية. على أن ما يؤخذ على هذه الخلافات المنهجية هو أنها اهتمت بالمناهج أكثر من الموضوع، ففرضت المناهجَ الوضعية على علم الاجتماع، الذي لم يؤسس لترقيم الإنسان وترميزه وتكميمه، وإنما لفهم الإنسان وعالمه.
وهكذا، فإن الخلاف هو خلاف بين العقل والعلم. ولا أجد مفراً من القول: إن روح علم الاجتماع كانت وتبقى روحاً فلسفية، وإن كثيراً من تصوراته ونظرياته مأخوذة من الفلسفة. ولذلك فإن المناهج الكيفية هي مناهج معبرة عن عالم الإنسان. وعليه فإن البحث الاجتماعي الكيفي، مادام يطرح السؤال عن الكيف، وعن ماهية الوجود الإنساني، فهو يهتم بكيفية فهم ومقابلة ومعايشة وحضور الإنسان ذاته في البحث. إذا كنا نريد دراسة الإنسان، فإن أفضل الوسائل هي جعل الحقيقة تنبثق مباشرة من فم الإنسان. جعل الإنسان يتكلم، والحقيقة تتكلم، والرموز تتكلم، واللغة تتكلم، كما يقول هيدغر، والإنسان بدون واسطة يتكلم، يتعلم ويعلم، هذا مبدأ منهجي كيفي. وعليه فإن مناهج البحث الكيفي هي تلك التي يتحدث ويشارك فيها المبحوثون مع الباحثين في البحث عن الحقيقة. وهذا ما جعل منهج الملاحظة بالمشاركة، والمقابلة الكيفية، وبحوث سيرة الحياة، وطريقة المحادثة الجماعية والمنهج الوثائقي، تشهد عملية إحياء. وعليه فالبحث الكيفي هو الذي يرى في المجتمع وإنسانه وتاريخه كتاباً مفتوحاً، يتعلم منه، لا يعلمه، ويستخلص المعرفة مباشرة من الإنسان وعالم حياته، ويفسر التغيرات النوعية في المجتمع المعقد[86]، فهو مفهوم مركب لمداخل نظرية ومنهجية مختلفة جداً إلى الواقع الاجتماعي[87]. ويقول أنسليم ستراوس: «يقصد بمصطلح البحث الكيفي أي نوع من البحوث لم يتم التوصل إليها بواسطة الإجراءات الإحصائية، أو بواسطة أي وسائل أخرى من الوسائل الكمية.
إن هذا المصطلح يتضمن البحوث حول السير الشخصية والقصص والسلوك، ووظائف المنظمات والحركات الاجتماعية، أو العلاقات التفاعلية. كما أن بعض بيانات البحث الكيفي من الممكن أن تقاس أو تحدد كمياً تماماً، كما في بيانات التعداد السكاني، ومع هذا، فإن التحليل نفسه تحليل نوعي. وفي الواقع فإن مصطلح البحث الكيفي يكتنفه بعض الغموض، لأنه ربما يعني أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين، فبعض الباحثين يقومون بجمع البيانات بواسطة أداة المقابلة وأداة الملاحظة، وهما أداتان مرتبطتان عادة بطرق البحث الكيفية. ومع هذا، فإن هؤلاء الباحثين يقومون بصياغة أو ترميز تلك البيانات بأسلوب يتيح لهم تحليل تلك البيانات تحليلاً إحصائياً (كمياً). إن هؤلاء الباحثين في الواقع يقومون بتحويل البيانات الكيفية إلى كمية»[88]. ويفهم تحت «البحث الكيفي، تلك المناهج التي لا تستخدم إلا عدداً قليلاً من الأشخاص للحصول على المعلومات، ولا تستخدم طريقة العينات، والتحليلات الإحصائية»[89].
ويذكر (لمنك) أن البحث الاجتماعي الكيفي من وجهة نظر معارضيه الكميين يحدد من خلال العناصر التالية:
1- «لا يستخدم إلا عدداً قليلاً جداً من المبحوثين.
2- لا يستخدم عينات حقيقية حسب مبدأ العشوائية.
3- لا يستخدم المتغيرات الكمية.
4- لا يستخدم التحليلات الإحصائية»[90].
ويفند (لمنك) الخصائص المذكورة بأنها سمات خارجية، لاتصدق في جلّ الحالات المدروسة. ففي بعض حالات البحوث الكيفية قد يتراوح عدد المبحوثين ما بين 50 حتى100. وفي حالة قلة عدد المبحوثين، فإن الأسباب تعود إلى التكاليف والوقت.
أما عن عدم استخدام العينات فيعود إلى قلة عدد المبحوثين الذي لا يحتاج إلى استخدام العينات. وكذلك بخصوص التحليل الإحصائي وقياس المتغيرات، فتلك تلعب دوراً ثانوياً في البحث الكيفي. ولكن ذلك لا يعني أن المتغيرات الكمية، مثل العمر وعدد الأطفال ومدة البطالة.. إلخ، لا تستخدم في وسائل البحث الكيفي (المقابلة غير المقننة، سيرة الحياة، المحادثة الجماعية، البحث الميداني الكيفي، المقابلات المعمقة... إلخ). وعليه فإن القياس ليس من مكونات البحث الكيفي[91]، ذلك أن منهج البحث الاجتماعي الكيفي يهتم بالمقام الأول بنماذج التفسير والفعل، ذات الطابع الإلزامي المحدد.
ويميز الباحثون بين المناهج والمنهجية والنظريات، فالأخيرة تفسر العلاقات الاجتماعية، والمجتمع، أما المنهجية فهي كما يقول كابلان ( Kaplan ): «تصف وتحلل مناهج البحث المستخدمة، وتلقي الضوء على مصادرها وإمكاناتها وحدودها، وتوضح ما تبنى عليه من مسلمات وافتراضات، وتبين تبعات وتوقعات المنهج. ومن خلال ذلك تمكِّن المنهجية الباحث من تعميم نتائج بحثه، بناء على نجاح ودقة المنهج وتكنيك جمع البيانات المستخدم، وهي تقترح تطبيقات جديدة للبحث، وتكشف عن المبادئ والأسس المنطقية والحدسية في حل المشكلات، وقد تقترح صياغات جديدة لتلك المشكلات... إن هدف المنهجية في البحث العلمي هو مساعدتنا على الفهم الشامل والواعي، لا لنتائج البحث العلمي، ولكن لعملية البحث نفسها»[92]. فالمنهجية هي دراسة المناهج، وتكمن وظائفها في مناقشة البنى النظرية والأسئلة التي تطرحها على ميدان البحث العملي، ومناقشة مناهج البحث ومدى قدرتها على طرح الأسئلة ودراستها في الواقع، وتبحث في الاعتماد المتبادل بين النظرية والممارسة والمنهج.

