أنت هنا

قراءة كتاب المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية

المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية

كتاب " المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية " ، تأليف د. عبد القادر عرابي ، والذي صدر عن دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر عام 2014 .

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
دار النشر:
الصفحة رقم: 8

رابعاً- نقد مناهج البحث الكمية

لقد دار النقاش - حتى السبعينيات من القرن الماضي - حول وحدة المناهج والعلوم، أو تعددها، وقد انطلق ممثلو اتجاه وحدة المنهج من العلوم الطبيعية كمثال، لكن هذا النموذج كان دائماً عرضة للنقد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع، ومن المدرسة الأوربية عموماً، والألمانية خصوصاً، واتجاهاتها المعاصرة التي يمثلها غرتلر ( Girtler )، ولامنك ( Lamnek )، وفليك ( Flick ) والمدارس الأمريكية الكيفية، وقبلها دراسات فيبر ومدرسة فرنكفورت، ودراسات مركوزه المختلفة عن الحضارة، وعن القمع الحضاري والتسامح القمعي. ولعل أهم ما يميز الاتجاهات المعاصرة في البحث الكيفي أنها لا تكتفي بالنقد المنهجي، ولم تعد تحفل بالنقد الإيديولوجي، وإنما رسخت مناهج البحث الكيفي في الجامعات، وفتحت آفاقاً جديدة للبحث الاجتماعي، يعجز البحث الاجتماعي الكمي عن طرقها، وصارت منهجاً مستقلاً، يدرس في الجامعات المختلفة. وإذا كان البحث الكيفي لم يكتف بالنقد، بل طور وسائله وأدواته المنهجية، فإن السؤال هو: ما النقد الموجه إلى البحث الكمي؟.

لقد اختصر غرتلر أهم أوجه النقد إلى الآتي:

1- «لا توجد الظواهر الاجتماعية خارج الفرد (كما يقول دوركهايم وأتباعه)، بل تقوم على تأويلات الأفراد لجماعة اجتماعية ما.

2- ليس من السهولة بمكان تعريف الظواهر الاجتماعية بأنها موضوعية، بالعكس إنها تؤول بوصفها أفعالاً اجتماعية من جانب مضمون المعنى، أي تؤول بشكل مختلف وفقاً للموقف.

3- إن القياسات الكمية، بما فيها التقنيات، لا تستطيع تحديد الفعل الاجتماعي حقيقة. وغالباً ما تزين الأسئلة المختلفة، وكثيراً ما تؤدي إلى أن ينسب إلى الفاعل بأن لفعله معنى معيناً، والذي هو على الأغلب من اختلاقِ عالم الاجتماع، وليس الفاعل.

4- إنها مشكلة، كما يطلب عموماً في العلوم الطبيعية، بأن تصاغ الفرضيات قبل البحث لكي نختبرها. لأن هذا يعني أن نفرض شيئاً على الفاعلين، لا يستند إليه فعلهم. وبناء على ذلك لا يؤدي مشروع البحث الطابع الطبيعي - الوضعي إلى فهم السلوك الإنساني»[118].

وكثيراً ما يعرض البحث الكمي إحصائيات ونسباً، لكنه «قليلاً ما يبين كيف يتصرف الإنسان فعلاً، وكيف تبدو تأويلاته للفعل»[119]. ويستطرد عالم الاجتماع الألماني غرتلر قائلاً: «إننا نتعلم في الجامعات كيف نعبئ الاستمارات، ونغلف البيانات رياضياً، لكن لا نتعلم كيف نقابل البشر»[120]. ويقول نيد بولسكي: «ليس لعلم الاجتماع قيمة ما لم يدرس البشر الحقيقيين الفاعلين، البشر في مواقفهم الحياتية»[121]. لقد أصاب غرتلر مقتل المنهج الكمي، عندما بين أن هذا المنهج قاصر عن فهم الإنسان، وأن المقابلات المقننة عاجزة عن فهم العالم الاجتماعي المتنوع، ناهيك عن فهم البنى الاجتماعية المعقدة[122]. إن المنهجية الكيفية لا تهتم بتكميم العلاقات الاجتماعية، بل بالكيف، بخلاف ذلك فإن مناهج الملاحظة الدقيقة والمحددة للباحث الكمي تولد بيانات، لا علاقة لها أبداً بالظروف الحياتية للمبحوث[123].

فهذه المنهجية العامة هي بمنزلة مجموعة من القوانين التي تفرض نفسها على الباحث من الخارج»[124]. إن منهج البحث الكمي مغلق ومحدد، في حين أن الواقع الاجتماعي متجدد ومتغير، يقول باشلار: «فالفكر العلمي كتاب فعّال، كتاب جسور، وحذر في الوقت ذاته، كتاب في التجربة، كتاب يراد طبعه طبعة جديدة، طبعة منقحة، تعاد كتابتها أو يعاد تنظيمها»[125]. وهكذ، فقد صدر هذا النقد عن علماء الاجتماع الكيفيين، وعلى رأسهم غرتلر، الذي قام بدراسات ميدانية في كرواتيا عن الأسرة الممتدة، وفي الهند عن المنافسة بين معايير الدولة الرسمية، وبين معايير القرية غير الرسمية لدى المشردين، والشرطة، والصحفيين، وفي الثقافات الهامشية المدنية لدى المجرمين[126]. ويأخذ غرتلر على المنهج الكمي موضوعيته الشكلية، وولعه بالإحصاء أكثر من سعيه إلى الوصول إلى الحقيقة، فباسم موضوعية مزيفة يتم تصنيم أدوات البحث الكمية، بخلاف المنهجية المرتبطة بالذات، وبمواقف معينة.

«فالمناهج الكمية لا تستطيع أن تلتقط سوى مظاهر المجتمعات الأكثر بساطة والأكثر سطحية»[127]. «وغالباً ما تكون نتائج دراساتها تافهة وقليلة الجدوى، خاصة لمن تعنيهم... وقد أثمرت دراساتها عن نتائج غير ناضجة، ورؤية ممسوخة للإنسان، فهي كمسرحيات العرائس التي تمثل في نطاق وظروف محدودة للغاية»[128]. وعليه فإن منهج البحث الكمي يعطينا «صورة مضللة عن الإنسان.. ويهمل الجوانب الخاصة والذاتية»[129]. كما تعجز هذه المناهج عن فهم وتفسير السلوك الإنساني، وعن دراسة البنى الاجتماعية. فالإحصائيات ليست بديلاً للدراسة المباشرة للواقع. كما أن عديداً من المناهج الكيفية، مثل المقابلات المعمقة، والملاحظة بالمشاركة تأخذ طابعاً إمبريقياً في سياق التعددية المنهجية. وينتقد لمنك المناهج الكمية، ويتناول ما يلي:

1- التجربة والخبرة

2- الظاهر والواقع

3- أولوية المنهج

4- صنمية القياس

5- الأداتية بوصفها ما بين ذاتية

6- العلم الطبيعي بوصفه نموذجاً

7- الذات بوصفها موضوعاً

8- الموضوعية الشكلية للتقنين

9- منظور البحث بوصفه مفروضاً

10-المنهجية وواقع البحث

11-مسافة الباحث عن الموضوع

12-إغفال سياق البحث

13-Messartefakte[130].

لن نسهب كثيراً في نقد المناهج الكيفية، وخصوصاً أن هذا النقد قد أصبح تاريخاً، تجاوزه الزمن، ويخص تاريخَ نظرية العلم أكثر مما يخص التطور الراهن لها، ومع ذلك فإن كشف عورات هذا اللاهوت الكمي - الوضعي وتعريته تنطوي على أهمية معرفية كبيرة بالنسبة إلى العلوم الاجتماعية عموماً، وإلى العلوم الاجتماعية العربية خصوصاً، التي ما تزال لا تحفل بهذا المنهج، وتجهله لأنها لاتعرفه، وتحسبه على الفلسفة، علماً بأن تطوير علمنا لن يكون ممكناً، إلاَّ إذا أمسكنا بناصية هذا المنهج. وأحسب أن المنهج الكيفي بأطيافه المختلفة، وقربه من الواقع، أقرب كثيراً إلى مجتمعنا وفهمه من غيره من المناهج الأخرى.

إن ما يعتبره أصحاب المنهج الكمي من فضائل منهج البحث الكمي، وهي علميته وموضوعيته، وقيامه على التجربة، هو ما يراه أصحاب المنهج الكيفي عوائق إبستمولوجية، تعوق الوصول إلى المعرفة. فهو يقتصر على دراسة الظواهر والمضامين الظاهرة. «أما بنى المغزى الكامنة فتستبعد بذلك من التحليل»[131]. ينطلق المنهجي الكمي من الخبرة بوصفها أساساً لاختبار وإثبات المعرفة العلمية. أما خبرة المبحوثين وعالم حياتهم، كمصدرين للمعرفة، فيستبعدان من المعرفة العلمية. إن علاقة النظرية بالخبرة والتجربة ينبغي ألا تقتصر على اختبار الفرضيات والنظريات، بل لابد لها من أن تشمل الخبرات السابقة والمكتسبة من تاريخ حياة الأفراد. وهذا هو ما عناه فلستد ( Filstead ) عندما أشار إلى المسافة بين الباحث وموضوع البحث. «إننا نطور تخصصات تقنية ولا نفكر بتاتاً إذا ما كانت تنفع في فهم واقع العالم الاجتماعي الإمبريقي. إن الاتجاه المتعاظم نحو التكميم أدى إلى فهم أقل للعالم الاجتماعي الإمبريقي..... إذا أراد علماء الاجتماع فهم السلوك الإنساني بشكل أفضل، فإنه يتعين عليهم أن يدخلوا في علاقة مباشرة مع العالم الاجتماعي الإمبريقي، بدلاً من المسافة المتزايدة عن ظواهر العالم الاجتماعي الإمبريقي»[132]، وهذا ما يسميه باشلار «بالعقلانية المطبقة، التي تتميز بكونها العقلانية التي تسعى إلى أن تزيد من تطبيقاتها، وتسعى إلى أن تكون باستمرار فلسفة إعادة النظر»[133]، وهي فلسفة متفتحة. إن البحث الاجتماعي الكيفي يتجاوز الهوة بين الباحث وموضوع البحث، ولا يقيم الحواجز بينهما باسم موضوعية مفتعلة، ولذلك يتسم بانفتاح البحث على الوعي اليومي، وبناء الواقع من خلال منظور الأفراد أنفسهم.

هذا النقد يقودنا إلى النقطة الثانية، وهي أن البحث الكمي يهتم بدراسة (الظاهر لا الجوهر).

هذا المصطلح الفلسفي مهم جداً، لأنه يطرح السؤال عن كيفية فهم الظواهر الاجتماعية وتفسيرها، وهل ندرس ظاهر الأشياء أو باطنها. الغوص في هذا الموضوع قد يكون غريباً عنا، ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن العلماء ربطوا بين الظاهر ( Schein ) والإيديولوجيا، فما هو ظاهرٌ، يكون مزيفاً، وإيديولوجياً، وليس الحقيقة. وهذا ما جعل أدورنو « Adorno يقول: إن الوضعية تدرس الظواهر الهامشية بدلاً من الأشياء، وقد تابع هابرماس نقد (وهم الوضعية) معتبراً التقنية والوضعية وجهين لوهم إيديولوجي واحد»[134]. وهذا ما أدى إلى العقم النظري، فهناك الواقع الإيديولوجي، من جانب[135]، وهناك الواقع اليومي، من جانب آخر. إن معظم الدراسات الاجتماعية لا تعطي رؤية واضحة عن المجتمع، ذلك أن معظم مناهج البحث غالباً ما تفتقر إلى النظرية، وتهتم بتقنية البحث أكثر من اهتمامها بالكشف عن الحقيقة. أما بلومر فيقول: «إن الواقع يوجد في العالم الإمبريقي، وليس في المناهج المستخدمة في دراسة ذلك العالم. وينبغي اكتشافها في دراسة هذا العالم، وليس في تحليل المناهج المستخدمة في دراسة هذا العالم. إن المناهج مجرد أدوات، نطورها، لنحدد ونحلل الطابع الخاص للعالم الإمبريقي، وبوصفها كذلك، فإن قيمتها تكمن فقط في قدرتها على إنجاز هذه الوظيفة»[136].

وفي هذا السياق تفهم محاولات ميرتون عن «النظريات المتوسطة المدى»، وعن العلاقة بين النظرية والإمبريقية. لقد قدم كل من بيرغر وتسكورل ( Cicourel 1970 ) وكرمبنر ( krempner ) نقداً مفصلاً لمناهج ومقاييس البحث المقننة، مفاده أن الطابع السياقي والدينامي والمعقد لمواضيع البحث الاجتماعي لا يمكن فهمه من خلال البيانات المقننة، وبدلاً من ذلك لابد من تطوير مناهج ملائمة للموقف ومرنة وقريبة من الواقع. يقول غرتلر: «إن منهج الفهم مثلاً، ومن خلال المشاركة المباشرة في حياة الجماعة المعنية، أو من خلال المقابلات الحرة، يمكّننا من إدراك السلوك البشري بشكل أدق، وتفسيره بشكل أقرب إلى الواقع، أكثر مما يسمح به المنظور الخارجي»[137].

أما النقد الثالث الموجه للبحث الكمي فيتمثل في أنه لا يهتم بتنمية الوعي الإنساني، أو كما قال أمرفل « Immerfell: «إن الوضعية لا تستطيع معرفة الغابة (المجتمع) من كثرة الأشجار (الإمبريقية)، لأنها تنطلق في منهجها لمعرفة المجتمع من الأشياء الملموسة... إنها تستبعد من خلال ذلك إمكانية المجتمع وتتناول ما هو ظاهري على أنه حقيقة»[138]. وهكذا، من كثرة الأشجار لم يعد ممكناً رؤية الغابة، ومن كثرة الإمبريقية لم يعد ممكناً رؤية المجتمع. كما تحجب الأشجار الكثيفة رؤية الغابة، فإن أدوات البحث الكمي لم تحجب رؤية المجتمع فقط، بل أنهت فكرة المجتمع. ولذلك قصرت كافة المناهج الكمية في إعطاء رؤية واضحة عن المجتمع، وعن البشر المكونين له، وعن آمالهم. ويفيد ذلك أن الوضعية تحجب الرؤية الاجتماعية، ولا تزيد وعي الناس بحقيقة المجتمع، ممّا جعل العلماء يأخذون عليها بأن وظيفتها تكمن في (ترسيخ الواقع). وهذا يعني أنّ البحث الكمي يعرض الوقائع كما هي، ولا ينقدها.

أما نقطة النقد الرابعة فهي أولوية المنهج. «ويتجلى ذلك في أن الباحثين كثيراً ما يستخدمون أدوات البحث الكمية، دون مراعاة موضوع البحث، ومدى ملاءمة المنهج للموضوع، ووحدة النظرية والمنهج. فلكل نظرية منهج، ولكل منهج نظرية»[139]. وغالباً ما يغفلون دور النظرية، وهذا يعني أنهم ينطلقون من أولوية المنهج على الأشياء التي يدرسونها.

إن المنهج يحدد مسبقاً الأشياء التي تبحث، أو لا تبحث. ولما كانت الوضعية تحصر التجربة بالوقائع والظواهر فقط، فإن ذلك يؤدي إلى إنكار بنية الشيء في سبيل المنهج. ليس الواقع والموضوع ما يحددان المنهجية، وإنما العكس هو الصحيح، فمن يحدد ويختار المنهج هو الباحث ولذلك غالباً لا يتناسب المنهج مع الموضوع.

وهذا يقودنا إلى نقطة النقد الخامسة، وهي صنميةُ القياس والهوس بالإحصائيات والأرقام على حساب الكيف. من كثرة الأشجار لم يعد ممكناً رؤية الغابة، ومن كثرة الإحصاء والتجريد لم يعد ممكناً رؤية الموضوع.

أما النقطة السادسة فهي الأداتية بوصفها ما بين ذاتية[140]. ويؤكد رواد المنهج الكيفي على أنه من المتعذر استبعاد العنصر الذاتي في البحوث الاجتماعية، ذلك أن الذاتية تدخل في صياغة الفرضيات، وفي النظريات، وفي التحليل. فثمة علاقة بين الأحكام القيمية، أي بين اتجاهات المنظرين ونظرياتهم، وقد وضح ذلك ألفن غولدنر ( Gouldner )، إذ بين أن النظريات الاجتماعية تحتوي على عنصرين على الأقل: العنصر الأول هو الفرضيات الواضحة والمصاغة، والثاني هو الفرضيات غير المصاغة، أو الفرضيات الكامنة، أي تلك التي تشكل الخلفية التي تستمد منها الفرضيات، فهي قائمة في الفرضيات ضمناً، ومشارك صامت في تكوين النظريات، تؤثر في صياغتها وتطورها، وهي تصورات عن العالم. إن الفرضيات الكامنة، المتأثرة بمشاعر الباحث وقناعاته تؤثر في النظريات، وتمثل رأس المال الثقافي الذي يستثمره المنظر في عمله. وإذا جاز لنا أن نسمي الفرضيات الكامنة بإيديولوجيا الباحث، فإن الفرضيات الخاصة، المختبرة ميدانياً، متأثرة أيضاً بآراء الباحث ومشاعره.

وهكذا إن البنية التحتية للنظرية الاجتماعية مؤطرة بميدان ما قبل نظري من الفرضيات والبنى العاطفية. ويتشكل هذا المجال ما قبل النظري من ثقافة المجتمع، ومن خبرات الباحث. وبناء على ذلك «فكل نظرية اجتماعية هي نظرية سياسية صامتة»[141].

وهذا ما يدعوه باشلار بالتحليل النفسي للمعرفة، «فإن باشلار يفترض لدى الباحث العلمي مكبوتات عقلية على الإبستمولوجي أن يبحث في أثرها في العمل العلمي لهذا الباحث... فالعمل العلمي هو عمل عقلي ونفسي»[142]. لذلك فإن أسلوب الكميين القائم على أداتية مناهج البحث ليس سليماً، لأنه ينكر تدخل الباحث في البحث. فإذا فهمنا عملية البحث بوصفها علاقة تفاعلية بين الباحث وموضوع البحث، فإن الذاتية تتولد هنا عن تكيف المناهج مع موضوع البحث الفردي، وعن التفاهم بين الباحث وموضوع البحث[143].

أما نقطة النقد السابعة، وهي العلوم الطبيعية نموذجاً، فقد ذكرنا أن عالم الإنسان غير عالم الجماد، وأن مناهج عالم الجماد ليست مناهج عالم الإنسان. إن موضوع التحليل هو الإنسان الفاعل الذي يعيش في سياق اجتماعي، إنه الفرد الاجتماعي الذي ينطوي فعله على معنى ويرتبط بالآخرين. وينبغي فهم هذا السلوك. ولذلك فإن دراسته تحتاج إلى منهج آخر، ذلك أن المطلوب ليس البحث في قوانين السلوك، وإنما البحث في دوافعه.

أما نقطة النقد الثامنة فهي الذات كموضوع، ويعني ذلك أن موضوع العلوم الاجتماعية ليس الظواهر الطبيعية، بل الذوات البشرية. إن البحث الكمي يتناول البشر، من خلال مناهجه المقننة، كمواضيع وجمادات، وكمجرد مصدر للبيانات فقط. ويتجاهل البحث الاجتماعي الكمي أن مواضيع بحثه ليست جمادات، وإنما هي بشر فاعلون في عملية البحث، سواء أكانوا مبحوثين متفاعلين وفاعلين أم باحثين. إنهم «خبراء بالمسائل التي تبحث، وبسبب هذه الخاصية تم اختيارهم»[144]. ويعني هذا أن البحث الاجتماعي الكيفي يراعي ذاتية مواضيع البحث. وهي ذاتية منتجة، لأنها تكشف ما يجول في داخل النفس الإنسانية، وتنظر إلى الإنسان لحماً ودماً، لا جماداً، يعيش خارج هذا الكون.

هذه الذاتية المنتجة تؤدي إلى نقطة النقد التاسعة، وهي الموضوعية الشكلية للتقنين[145]. إن تقنين المناهج لا يعني تقنين الأفعال، ولا يعني أبداً أن التحليل موضوعي بنفس موضوعية الأدوات. ويقول لمنك: «إن تقنين المعاني هو شيء آخر غير تقنين الأفعال. فنفس الظواهر يمكن أن تفسر بشكل مختلف»[146]. وهذا نقد موجه إلى الباحث الاجتماعي الكمي، الذي يدعي أن قيام ظروف متشابهة من خلال التقنين، يؤدي إلى ظروف بحث متساوية أمام الجميع، تمكّن من المقارنة في التحليل. وحتى لو افترضنا قيام نفس الظروف، فإن تفسيرات المبحوثين وأفعالهم تختلف.

ولذلك فإن مناهج البحث الكمية غالباً ما تكون منقطعة الصلة عن ظروف الحياة الطبيعية للمبحوث. أما غرتلر فيرى أنه من خلال المناهج الكيفية يمكن عرض الواقع الاجتماعي موضوعياً، كما يراه البشر، لا كما يراه عالم الاجتماع. فالبحث غير مقطوع الصلة عن وعي الباحث ونفسيته، وهذا ما يؤكده باشلار عندما يتحدث عن التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية، ذلك أن القيم الإبستمولوجية هي قيم نفسية وعقلية، ولذلك لابد من السؤال عن الشروط الخفية، و لكن الديناميكية، التي تتحقق فيها معرفتنا. وهي نوع من العقلانية الجدلية، أي إخضاع المبادئ لصيرورة التطور العلمي[147].

أما النقطة العاشرة فهي أن الباحث يفرض رؤيته وأفق بحثه على المبحوث. ويتم ذلك عن طريق الفروض التي صاغها الباحث، ويريد اختبارها. ويفيد ذلك أن نفرض على الفاعلين شيئاً، قد لا يستند إليه فعلهم[148]. فالفرضيات والعمليات الإجرائية التي يقوم بها الباحث تحددان المهم، وغير المهم في نظر الباحث؛ فلا يتكلم المبحوثون في البحث، ولا تؤخذ الحقيقة مباشرة من أفواههم، ودون وسيط، وإنما يبحث فيما يراه الباحث هاماً. رؤية الباحث وآراؤه، لا رؤية المبحوث وعالمه، ومنظور الباحث، لا منظور المبحوثين، وتقنين الأسئلة والأجوبة، لا عفوية المبحوثين، هي ما تسم البحث الاجتماعي الكمي. ترى من يدري أن ما افترضه دوركهايم عن أسباب الانتحار صحيح من رؤية المبحوثين[149]، وهل استخلص دوركهايم نظريته عن الدراسة الواقعية لعالم حياتهم، أو أن دوركهايم فرض عليهم سياقه النظري؟.

أما نقطة النقد الحادية عشرة فهي المنهجية وواقع البحث والعلاقة بينهما. وقد ذكرنا أن إحدى الوظائف الأساسية للمنهجية هي نقد مناهج البحث وتقويمها، وهذا يعني تطبيق نتائج البحث المنهجي. لكن واقع البحث الاجتماعي يدل على ضعف التعاون بين المنظرين وبين الباحثين الاجتماعيين، فثمة هوة عميقة بينهما، ولهذا ينطلق البحث الاجتماعي الكيفي من الواقع.

وهذا يقودنا إلى نقطة النقد الثانية عشرة، وهي المسافة بين الباحث وموضوع البحث. إذا كان البحث الكمي يؤكد على المسافة بين الباحث والموضوع، وعلى الموضوعية ( Objektivitaet )، فإن التفسير يظل بعيداً عن الواقع، وهذا ما يجعل العالم الاجتماعي للمبحوثين يبقى مخفياً عن الباحث، علماً بأن دراسته هي الشرط الأساسي لأي بحث اجتماعي. فبخلاف الباحث الكمي، فإن الباحث الكيفي يدرك جيداً بأن قدرته على الفهم لا تتزايد على المسافة التي تفصله عن موضوع البحث، وإنما على قربه منه[150]. ويصف غرتلر هذه الموضوعية بالشكلية، فمن خلال مبدئي الانفتاح والتفاعل نستطيع عرض الواقع الاجتماعي، كما يراه البشر، وليس كما يراه عالم الاجتماع.

وهذا يؤدي إلى نقطة النقد الثالثة عشرة، وهي إهمال سياق البحث. فالبيانات التي يتم الحصول عليها مقطوعة عن السياق الموقفي والحياتي. من هنا كانَ الشك في مصداقية البيانات الكمية، «فلا يكفي تقنين المناهج والمواقف، وإنما المطلوب هو أن نتناول نتائج البيانات المحددة موقفياً في التفسير. من خلال ذلك فقط يمكن فهم الأفعال المنتجة للبيانات من حيث المغزى»[151].

أما الموضوع الأخير فهو النتائج الاصطناعية للقياس messartefakte ، ويقصد بها الصعوبات المنهجية الفنية للبحث الاجتماعي الإمبريقي والعوامل غير المخطط لها والمؤثرة في عملية البحث ونتائجه، والتي تظهر في البحث الميداني، وتؤدي إلى الأخطاء في عملية البحث وفي موقف البحث، وفي تحليل البيانات نتيجة العوامل الدخيلة على عملية البحث، وتحيز الباحث.

ويذكر لمنك وجود عاملين أساسيين للبحث، لم يتم بعد بحث نتائجهما، وهما:

أولاً - إن الباحث يساهم من خلال قراراته المتعلقة ببعض أبعاد البحث وخطط الدراسة ونماذج التحليل، في تشكيل موضوع بحثه.

ثانياً - إن المبحوثين يشكلون، كذوات بحث تماماً كالباحث نفسه، عالمهم، ولا يمكن دراستهم كما في العلوم الطبيعية[152].

ويفهم تحت نتائج البحث الاصطناعية forschungsartefakte عموماً كل نتائج البحث الخاطئة التي تحدث من خلال العوامل المربكة في عملية البحث، أو يمكن أن تكمن هذه في واقع البحث وفي طريقة الحصول على البيانات أو تقويمها. ويمكن اختزال الدعاوى ضد البحث الكمي الموضوعي إلى الآتي:

1- «التشكيل المسبق الرمزي لمجال الموضوع السوسيولوجي

2- العملية التفاعلية بين الباحث والمبحوث

3- وجود عالم حياة وثقافة يومية مشتركة»[153].

هذا النقد للبحث الكمي تعمق من خلال الهرمينوطيقة الفلسفية لغادامر « Hans Georg Gadamer ) (1960)، وتحليل عالم الحياة الفينومنولوجي لهوسرل وشوتس والتفاعلية الرمزية والاتنوميتودولوجيا winch und cicourel ». وقد ركز البحث الكيفي المستند إلى ذلك على المصطلحات التالية:

· «التفاعل

· الفهم

· الذات

· عالم الحياة»[154].

إن البحث الكيفي يناقض كل مقومات البحث الكمي، ابتداء من بدء عملية البحث، وعرض المشكلة، وصياغة الفرضيات واختبارها، بما في ذلك تحديد المفاهيم الإجرائية وعمليات الصدق والثبات und Gueltigkeit Verlaesslichkeit ، ومدى ملاءمة المنهج المستخدم للموضوع، وإذا ما كانت النتائج تساير الواقع. بعدها تصاغ الفرضيات، ويختبر صدق الأداة وثباتها.

لكن المهم للصدق والثبات هو أن يحاول الباحث عرض الواقع الإمبريقي الاجتماعي، كما هو قائم عند المبحوثين فعلاً[155]. في المنهج الكمي تعكس الفرضيات وجهة نظر الباحث، وتفرض على الواقع، بعكس ذلك في البحوث الكيفية، حيث تصاغ الفرضيات في أثناء عملية البحث[156]. ولعل أهم نقاط النقد هي إهمال الباحث الكمي للمسؤولية الأخلاقية للعلم وضآلة النتائج التي يتوصل إليها.

الصفحات