أنت هنا

قراءة كتاب الدماغ البشري

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الدماغ البشري

الدماغ البشري

كتاب " الدماغ البشري " ، تأليف سامي أحمد الموصلي ، والذي صدر عن دار دجلة

تقييمك:
1
Average: 1 (1 vote)
الصفحة رقم: 10

ويؤكد العلماء أن (قدرتنا العظيمة على التعلم تعني أن السلوك يمكن أن يصدر قدرا من المرونة بحيث يسمح بالبقاء في أصناف لا حصر لها من البيئة وفي وجه مختلف التقلبات البيئية وهي تعني أيضا المدة الطويلة التي يستغرقها تعلمنا واعتمادنا الكامل على الكبار في طفولتنا )[41].

وسواء قلنا أن افرازات الغدد والتركيب العصبي وذبذباته الكهربائية وتوصيلاته الكيميائية هي المؤثر الأول لطابع الشخصية أو قلنا أن التعليم والتكيف والتدريب هي المؤثر الثاني في رسم سماتها ، فإن الدماغ هو الوسط الذي تجتمع فيه هذه المؤثرات في بناء ونمو ونمط الشخصية ، فكل حياة الإنسان الماضية هي خبرة وذاكرة ومؤثر في السلوك اللاحق الذي يرسم الشخصية وهما من أنشطة الدماغ وذاكرته ،وكل الدوافع الفسيولوجية والبايلوجية هي مما يسكن ويتحرك من خلال الدماغ وطبيعته المنعكسة على نمط الشخصية .

على أن التقدم العلمي في البيولوجية الجزيئية واكتشاف مفردات الخريطة للجينوم البشري قد دفع بالدراسات المتعلقة بالسلوك والشخصية عبر الدماغ والتركيب الجيني له إلى أمام وبشكل أكثر علمية وتجريبية من الدراسات الإنسانية السابقة فماذا تقول الجينات عن طبيعة العلاقة بين الدماغ والشخصية ؟ وهل الجينات هي التي تحدد الشخصية صحة ومرضا وسلوكا سويا أو مرضيا أم أن الدماغ يلعب الدور الأكبر في كل هذا ؟

لقد كان حديث علماء البيولوجيا قبل اكتشاف خريطة الجينوم البشري الذي تحددت فيها جينات خاصة للسلوك والشخصية ، يدور على ما يسمى الحتمية البيولوجية ولكن بشكل عام ، حيث كان هؤلاء العلماء يذهبون إلى أن الطبيعة البشرية مثبتة في جيناتنا وهم يؤكدون على أن ( الكائن الحي هو رغم كل شيء مجرد طريقة د ن ا في صنع جزيء آخر من د ن ا وان كل شيء موجود في الجين وفقا لمبدأ التخلق السبقي الذي ظل يجري كالسلسلة عبر قرون عديدة من الفكر التبسيطي ) [42] .

وإذا كان هذا الرأي قبل اكتشاف جينات السلوك والشخصية في خريطة الجينوم البشري الحديثة إلا أن هناك آراء أخرى للبيولوجيين الاجتماعيين تذهب إلى أن الجين زائدا البيئة هما من يحدد طبيعة الإنسان وسلوكه وشخصيته ،وتذهب هذه الآراء إلى أن ( العلاقة بين الكائن الحي والبيئة ليست مجرد علاقة تفاعل بين عوامل داخلية وخارجية ،ولكنها علاقة تفاعل لنمو جدلي للكائن الحي ووسطه إذ يستجيب كل منها للآخر)[43]

فالتفاعلية تتخذ نقطة بدايتها من تركيب وراثي مستقل ذاتيا وعالم فيزيائي مستقل ذاتيا ثم تصف الكائن الحي الذي سينمو من هذا المزيج من التركيب الوراثي والبيئة ، ولكن هذه التفاعلية لا تعترف بان الكائن الحي النامي يقوم بإعادة تنظير ما يتعلق بهذه العملية من جوانب ذلك العالم الخارجي وتحديده.

ولا شك أن الوسط الذي تلتقي عنده هذه التفاعلية بين البيولوجية كجينات والبيئة كتعليم واجتماع هو الدماغ الذي يملك الأول كخلقة بدئية سابقة ويهضم الثاني كاكتساب وخبرة وتدريب وذاكرة وتكيف ،

إن اكتشاف خريطة الجينوم البشري وما عبر عنه من جينات للسلوك وللشخصية وكل ما له علاقة بهما يجعل حديث توسط الدماغ بين الوراثي كجينات والبيئة المكتسبة حديثا علميا صادقا. فما الذي يتميز به الدماغ من تركيب جيني أولا لينعكس على السلوك ومن افرازات لغدد وهرمونات تؤثر فعلا في تحديد سمة وطبيعة الشخصية التي تحملها ثانيا ؟

إن المنطلق الأول الذي حددت بموجبه الشخصية على ضوء التركيب الجيني للإنسان هو منطلق عام يقول ( من أنا ؟ أنا كائن بيولوجي جمعتني معا جيناتي ، فهي قد وصفت شكلي وأعطتني أصابعي الخمس في كل يد ،واثنتين وثلاثين سنا في فمي ،وأرست قدرتي لغويا ،وعينت ما يقرب من نصف قدرة ذكائي ،وعندما أتذكر شيئا فان جيناتي هي التي تفعل لي ذلك ،فتضغط زر تشغيل منظومة كريب لتخزين الذاكرة ،وهي التي بنت مخا وأوكلت له مسؤولية القيام بالواجبات اليومية وهي قد أعطتني أيضا انطباعا واضحا بأنني حر في اتخاذ قراري الخاص فيما يتعلق بطريقة سلوكي ويخبرني أي استبطان بسيط أن ما من شي لا أستطيع أن امنع نفسي عن فعله، وبالمثل لا يوجد ما يفرض علي أنني يجب أن افعل أمرا وليس أمرا آخرا )[44]

هذا هو المنظور العام والمعطى العام لكل إنسان ، وهذه هي الآليات البيولوجية والفسيولوجية الطبيعية والفطرية لوصف الإنسان كجسد قائم على برنامج جيني محدد بالفطرة والوراثة.

أما من حيث المنطلق التفصيلي لممارسة كل هذه الأعضاء واجباتها وفعلها وردود فعلها أما العمق الفسيولوجي والتركيب العصبي والهرمونات الكيمائية التي تحدث داخل المخ البشري ومن وجهة نظر علماء الجينوم البشري وإظهارها للشخصية فيتم الحديث عنها بشكل يفسح مجالا للتأثيرات البيئية والاجتماعية في السلوك والشخصية .

إن هذا المنطلق يتحدث عن تركيبات كيميائية تؤثر في الشخصية عبر الجينوم البشري ويتحدث عن أن الجينات ليست هي التي تتحكم كليا بالسلوك والشخصية، أي أن تكون ناتجا حتميا بمجرد وجودها لخلق سلوك معين ،بل تتحدث عن الدماغ الذي تخلقه الجينات للقيام بالتوسط بين الجينات الوراثية والبيئة الاجتماعية بالمعنى الذي يتحدث العلماء عن الدوبامين والسيروتونين بعد أن يؤكدوا على حقيقة وجود عشرة جينات تتساوى في الأهمية يتوافق بنيانها مع التباين في الشخصية.

إن علماء الجينات يتحدثون عن الدوبامين باعتباره الحافز الكيمائي للمخ ويتحدثون عن السيروتونين باعتباره المظهر الكيمائي للشخصية كما يتحدثون عن أن كيمياء المخ ينعكس على الفرد بحيث يصبح مجرما أو صالحا .إنهم يتحدثون عن أن الشخصيات القائدة تتمتع بتركيزات عالية من السيروتونين وتنخفض هذه المستويات عندما يصبح الشخص ضجرا بسهولة ويكثر التماسه لمغامرات جديدة وفي هذا يكمن سبب الاختلاف في الشخصية .

وهم يقولون أيضا (إن الأفراد الذين لديهم جينات طويلة من نوع د4در عندهم استجابة منخفضة للدوبامين ويلزم لهم اتخاذ طريقة تناول للحياة فيها مغامرة أكثر ليحصلوا على طنين الدوبامين نفسه الذي يحصل عليه الأفراد ذوو الجينات القصيرة من أشياء بسيطة ،وهم في بحثهم عن عوامل الطنين هذه ينمون شخصيات ملتمسة للجدة)[45] وهم يؤكدون على أن (زيادة السيروتونين في المخ (يخفف من القلق والاكتئاب وتستطيع حتى أن تحول الأفراد العاديين بصورة معقولة إلى متفائلين )[46]

ويؤكد هؤلاء العلماء أن هناك صلة بين الكولسترول المنخفض والعنف تتضمن دورا يلعبه السيروتونين( والحقيقة أن انخفاض مستوى السيروتونين هو عامل تنبؤ دقيق بالعدوانية في القرود مثلما هو عامل تنبؤ دقيق للاندفاع إلى الجريمة أو الانتحار أو العراك أو الحرق المتعمد عند البشر) [47] .

إن جميع هذه التفصيلات تعمل إذا لم يكن هناك تأثير اجتماعي _بيئي، يضغط عليها وإذا لم يكن هناك دماغ يمتص معلومات وتأثيرات ،واستجابات معينة،إنها في حالة سكونية لا في حالة فعل وانفعال ،إنها معطى أولي وأرضية للفعل،ومن هنا طرحت المفردات الاجتماعية والتأثيرات الخارجية لتشغيل هذه الآليات وبالتالي دخلت البيئة عبر اكتساب الدماغ لمفرداتها على العمل.

وإذا ما نزلنا إلى الواقع العقلي التفصيلي لتوسط المخ بين الجينات الفطرية والسلوك المطلوب بيئيا نجد القول( الحقيقة أن المزاج والعقل والشخصية والسلوك تتحدد اجتماعيا ،ولكن هذا لا يعني أنها لا تتحدد بيولوجيا ذلك أن التأثيرات الاجتماعية تعمل من خلال تشغيل وإيقاف الجينات )[48] إذن فان تشغيل الجينات يتم عن طريق خارجي ومؤثر بيئي واجتماعي خارجي ،فالضغط يستطيع مثلا أن يغير من تعبير الجينات ،وهذا يمكنه أن يؤثر في الاستجابة للضغط وهلم جرا، إن رد فعل الضغط _كما يقول علماء الجينات _ يتشكل بجينات تحت تأثير نزوات من البيئة الاجتماعية وليس العكس ،فإذا كانت الجينات تستطيع التأثير في السلوك فان السلوك أيضا يستطيع التأثير بالجينات، وهذه سببية دائرية ،بل إنهم يذهبون أيعد من ذلك إلى القول بان من الممكن أن تحث الجينات على التغير بوساطة فعل واع وإرادي وبإرادة حرة فنحن ابعد من أن نكون قابعين تحت رحمة جيناتنا الجبارة بل إن جيناتنا كثيرا ما تكون هي القابعة تحت رحمتنا .

ولا شك أن الدماغ أو المخ هو الذي يقوم بكل هذه الأمور، فالمخ تخلقه الجينات وهو لا يكون جيدا إلا بمثل جودة تصميمه الفطري وقد انكتب في الجينات لب الحقيقة من (أن المخ آلة صممت لتعدل بالخبرة وسر طريقة ذلك هو اكبر التحديات للبيولوجية الحديثة ...إلا انه لا شك أن المخ أروع نصب أقيم لقدرات الجينات ،..إن علاقة القائد العظيم انه يعرف متى يعطي تفويضا ،والجينوم قد عرف متى يعطي تفويضا)[49]

لقد ابتكر الجينوم ماكنة ذات سرعة جيدة تكون مهمتها (استخلاص المعلومات في سلوك ،هذه الماكينة هي المخ ،يمدنا الجينوم بأعصاب تخبرنا بالأمر عندما تكون أيدينا ساخنة ويوفر لنا المخ الفعل لنرفع أيدينا عن قمة الموقد )..

وهكذا نستطيع أن نلخص نظرة علماء الجينوم إلى الشخصية بالقول (إن حقيقة ما نسميه بالشخصية هي إلى حد له اعتبار مسالة كيمياء مخ ،وهناك العديد من الطرق المختلفة التي يمكن بها أن تكون هناك علاقة بين هذه المادة الكيمياء الواحدة -أي السيروتونين- والاختلافات الفطرية في الشخصية ، وهذه بدورها تقع فوق العديد من الطرائق المختلفة التي تستجيب بها منظومة السيروتونين في المخ للتأثيرات الخارجية مثل الإشارات الاجتماعية وبعض الأفراد أكثر حساسية من الآخرين لبعض الإشارات الاجتماعية وهذا هو واقع الجينات والبيئات ،متاهة من تفاعلات معقدة فيما بينها وليست بالحتمية ذات الاتجاه الواحد فالسلوك الاجتماعي ليس بعض سلسلة خارجية من الأحداث تأخذ عقولنا وأجسادنا لا ينتج عنها سلوك اجتماعي فحسب وإنما أيضا لتستجيب لهذا السلوك )[50] .

إذن مهما كنا نحن البشر محددين تحديدا مدهشا حسب أوامر جيناتنا ،إلا أننا نتحدد اكبر بما نتعلمه من حياتنا ،فالجينوم كمبيوتر معالج للمعلومات يستخلص معلومات مفيدة من العالم بالانتخاب الطبيعي ويجسد هذه المعلومات في تعميماته ثم يعطيها لماكنة المخ التي يفوضها بسرعة الاستجابة والعمل بالخبرة المعلوماتية هذه ، وهكذا نستطيع أن نضع الدماغ أو المخ في الوسط الذي يجمع الفطرة الجينية مع البيئة المكتسبة لقيادة الإنسان وسلوك الإنسان وتحديد شخصية الإنسان .

ولو أخذنا نشاطا واحدا من نشاطات الدماغ الذي يعكس لدى علماء النفس شخصية الإنسان أكثر من غيره لوجدنا ذلك في الذاكرة ، حيث يقول علماء النفس في قيمة الذاكرة للإنسان ( فالإدراك لا يقوم على تذكر الصورة السابقة كما أن الشخصية لا تقوم إلا على تذكر الماضي فلولا الذاكرة لما تكونت الشخصية ولا تم الإدراك ولا اكتسبت العادات ولا أمكن التخيل والحكم والاستدلال ، وكلما كانت الذاكرة أقوى كان العقل أوسع وأغنى والذين يمارسون الأعمال العقلية محتاجون إلى الذاكرة أكثر من غيرهم لان الذاكرة تعينهم على حفظ المعلومات وتسهل لهم الفهم ) [51] .

أما الأساس العصبي للذاكرة في المخ فنجده لدى علماء النفس والطب النفسي حينما يتحدثون عن اضطرا بات الذاكرة نتيجة إصابة أو تلف في خلايا الفص الصدغي من المخ حيث نهاية مركز العصب السمعي الذي يحمل المنبهات السمعية إلى مستودع الذاكرة في هذه المنطقة ( وقد قام الجراح الكندي المشهور في جامعة مونتريال ويدعى بنفيلد بإجراء عمليات جراحية لاستئصال بعض الأورام الخبيثة في المخ وحدثت بعض الاضطرابات في الذاكرة ، كما انه قام بتنبيه بعض المراكز العصبية في الفص الصدغي بواسطة شحنة كهربائية فلاحظ تنبيه وتنشيط الذاكرة وقوة الاستدعاء والتعرف على الحالة الوجدانية المصحوبة بانفعال بإثارة الحواس الأخرى كالسمعية –أصوات والبصرية-رؤية والشمية –رائحة والتذوق ، ويلاحظ انه في بعض حالات مرض الصرع يكون احد مظاهر السلوك الخارجي بعض شعور الإنذار المبكر للمريض ، اضطرا بات إدراكية في مجال السمع أو الإبصار أو الشم أو التذوق مثل حدوث النوبة الصرعية كما لاحظ ارتباط وجود هذه الظاهرة الفسيولوجية بحالات مرضية عضوية في هذه المنطقة من المخ )[52].

أما الأساس الكيميائي للذاكرة فيقول عنها علم النفس ( إن الذاكرة تختزن في المخ على هيئة تغيرات جزيئية في بروتينات الخلايا في شكل الحامض النووي الديؤكسي ريبوزي أو أل د ن ا وهي نفس البروتينات المسؤولة عن نقل الجينات والخصائص الوراثية ، ولقد وضح أن هناك تأثيرا لمادة الاستايكلوين وهي مادة موصلة بين الأعصاب والقشرة المخية والشحنة الكهربائية مما يدل على أن زيادة هذه المادة قد يساعد في عملية التذكير حيث يمكن قياس هذه المادة في المختبر )[53] .

أما بضوء الجينوم البشري اليوم فيذهب العلماء إلى أن ( الذاكرة ربما تتشكل بالمعنى الحرفي تماما بإحكام الوصلات بين العصبونات ، عندما يتعلم احدنا شيئا فإنه يعدل الشبكة الفيزيقية لمخه بحيث يخلق وصلات جديدة محكمة حيث لم يكن يوجد أي وصلات من قبل أو أنها كانت اضعف ، ولكنني أجد صعوبة في تخيل كيف أن ذاكرتي بالنسبة لمعنى كلمة –فولادو- تتشكل من بعض وصلات مشابك مقواة تصل بين عصبونات معدودة ،من الواضح أن هذا فيه ما يجفل العقل ، وهكذا اشعر بأن العلماء بدلا من أن يزيلوا الغموض عن المشكلة بأن يختزلوها إلى المستوى الجزيئي فإنهم بعيدا عن ذلك قد وضعوا أمامي لغزا جديدا مثيرا ، هو أن أحاول تخيل كيف أن الوصلات بين الخلايا العصبية لا تقتصر على توفير ميكانزم الذاكرة وإنما تكون هي الذاكرة وهي مماثلة تماما في غموضها لفيزياء الكم وأكثر إثارة إلىحد كبير من لوح ويجا والأطباق الطائرة ) [54] .

إن الدراسات المعاصرة عن الذاكرة والمخ وصلت إلى مراحل متقدمة في تحديد موقع الذاكرة وطبيعتها وأنواعها ففي الوقت الذي يشير فيه علماء الدماغ إلى المعرفة الدلالية والمعرفة الشخصية واختلاف ابيعتها في التذكر ويقولون عن الذاكرة ( تمكننا الذاكرة من فهم العالم بان تربط بين خبرتنا الراهنة وبين معارفنا السابقة عن العالم وكيف يعمل ، فنحن نتذكر معاني الكلمات ودلالات الأشياء ونحن نعرف على الأقل الأشياء الأساسية التي تمليها علينا ثقافتنا ، وهذا النوع من المعرفة هو ما يسمى بأل -المعرفة الدلالية- semanticالتي تتميز عن المعرفة الخاصة بحياتنا الشخصية مثلما نتذكر ليلة معينة احتسينا فيها كثيرا من الشراب ومصدر هذه المعرفة الشخصية الذاتية episodic يعتقد أنها تشغل موقعا خاصا بها في جهاز الذاكرة في المخ مختلفا عن الذاكرة الدلالية ، وأحيانا تكون الذاكرة الشخصية باهتة مثلما نخفق في تذكر أحداث ليلة أسرفنا فيها في الشراب ، فالتأثيرات الكيميائية الحيوية للكحول تتداخل مع العمليات الطبيعية التي تنشط الذاكرة في المخ ،وهكذا تتحدد المشكلة أما في اختزان المعلومات أو في استرجاعها والذين يرون أن المشكلة هي مشكلة استرجاع أكثر منها مشكلة تخزين يلاحظون انه عندما يتناول المرء شرابا في وقت لاحق ،فإن الأحداث المرتبطة بالمرة السابقة يتم تذكرها بطريقة مزعجة ومثل هذا التأثير يسمى تذكر معتمد على الحالة الذاتية state-dependent retrieval )[55] .

ويؤكد هؤلاء الباحثون أن الذاكرة تتأثر حين يحدث تلف في المناطق المخية البنية ومناطق فرس النهر وهي من مكونات المخ الأوسط ، وكذلك في المناطق الصدغية من القشرة الدماغية ، وهي أيضا تتأثر بتعاطي الكحول وبالأدوية وبالسموم والكلمات الموجهة للرأس وتقدم العمر والعته وأنماط اختلال الذاكرة في هذه الحالات تشير إلى وجود أنواع مختلفة من الذاكرة ومن عمليات التذكر قصيرة المدى وطويلة المدى ، شخصية ودلالية وإجرائية عملية وصريحة –وقائعية –لفظية وغير لفظية ومحددة الفئة واختلالات الذاكرة يمكن أن تنتج من أخطاء التشفير أو التعزيز أو استدعاء أي من عمليات الذاكرة ) [56] .

على أن البحوث في مجال الذاكرة وخزنها هل هو كهربائي أم كيميائي قادت العلماء إلى تصورات طموحة جدا حيث طرحوا فكرة حقن الذكريات في مخ الإنسان أو نقل الذاكرة من مخ شخص إلى مخ شخص آخر وبالتالي تغيير شخصيته ، ومن ثم طرحوا فكرة مسح الذاكرة بعد أن تبين أن الذكريات قد تزول وتمسح نتيجة ضربة على الرأس ، لقد كانت الأفكار السابقة تقول أن المخ آلة كهربائية وبالتالي فالذاكرة إنما تخزن كهربائيا لكن مع تطور دراسات الجينات والبيولوجية الجزيئية اكتسبت فكرة التخزين الكيميائي للذاكرة دفعا جديدا ، وأخيرا جرى القول أن الذكريات القريبة تخزن كهربائيا والذكريات البعيدة تخزن كيميائيا عن طريق الجينات ، بل إن طموح العلماء وأحلامهم وصلت إلى إمكانية زرع ذكريات جديدة صنعية في مخ الإنسان عن غير الطريق الطبيعي لتكون الذكريات ، فما دامت هذه الإمكانية تتحقق عبر عملية التنويم المغناطيسي للشخص النائم حتى إذا استيقظ اقسم انه مر بمثل هذه الذكريات فكيف إذا توصل العلماء إلى تكوين الذكريات الصناعية وتسجيلها ثم تغذية المخ بها كهربائيا أو كيميائيا ، حيث أن هذه الخبرات الصناعية ستكون أكثر حيوية من كل ما تقدمه السينما العالمية لان هذه الخبرات الصناعية ستؤثر على كل الحواس ،يقول احد الكتاب نقلا عن -آرثر كلارك- كاتب الخيال العلمي ( انه سيصل بنا إلى قمة وسائل وأشكال الترفيه المعروفة ، وان هذه العملية ستنجح في زرع خبرات خيالية أكثر واقعية من الواقع نفسه -، ويتأمل كلارك مستقبل هذا الاكتشاف فيقول – لقد كثر التساؤل حول ما إذا كان معظم الناس يرضون عن حياة اليقظة التي يحيونها إذا ما كانت مصانع الأحلام يمكنها أن تلبي جميع رغباتهم مقابل بضعة قروش هي تكاليف الكهرباء ومصانع الأحلام التي يتحدث عنها هي مخازن الذكريات الجاهزة التي يمكن للشخص أن يختار من بينها عالم الأحلام الذي يحب أن يعيش فيه، أحلام تكون بالنسبة له أقوى من الواقع وإذا نجحنا في زرع ذكريات في مخ الإنسان فهل نصل إلى امكان نقل ما في مخ إنسان من ذكريات إلى مخ شخص آخر ؟ )[57]

إن شخصية الإنسان وليدة ذاكرته وذاكرته وليدة دماغه ومن هنا نفهم طبيعة العلاقة والمقاربة بين الدماغ والشخصية .

الصفحات