كتاب " دراسات في الدلالة القرآنية " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب دراسات في الدلالة القرآنية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
والفعل (بشر) مسند إلى ضمير المخاطب المستتر فيه وجوباً تقديره (أنت) يعود إلى النبي محمد {صلى الله عليه وسلم}، أو لكل من تأتي منه البشارة([211]) .
وقوله تعالى (واعلموا أنَّكم ملاقوهُ وَبشِّرِ المؤمنينَ)([212]) في الآية جملتان إنشائيتان (وَاعْلَموا) و(بشّر المؤمنين) فعطف الثانية على الأولى بالواو، وقيل انه عطف الثاني (وبشّر المؤْمنينَ) على جملة (نِسَاؤكُمْ حَرْثٌ لَكُم)([213]) وهي جملة اسمية وهذا ليس بجيد، فالوجه الأول لأنه يتفق والمعنى العام للآية.
ونجد في هذه الآية ونحوها أن المعمول الثاني للفعل (بشّر) محذوف مع حرف الجر وتقديره: وبشّر المؤمنين بمغفرة أو بالجنة أو بحسن المآب…
كما قال (إنّمَا مَنْ اتّبَعَ الذِّكْرَ وَخشيَ الرّحْمَنَ بالغَيْبِ فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرةٍ وأجرٍ كَريمٍ)([214]) ومعنى الآية (وبشّر المؤمنين المستوجبين للمدح والتعظيم بترك القبائح وفعل الحسنات([215]) وجملة وبشّر المؤمنين تعقيب للتحذير بالبشارة والمراد المؤمنون الكاملون الذين يُسّرون بلقاء الله…)([216]) .
وقوله جل عُلاه (فَاسْتَبْشروا ببيعِكُمْ الَّذي بَايَعْتُمْ بِهِ)([217]) ألفاء في قوله (فَاسْتَبْشروا) للترتيب والتعقيب، والسين والتاء للمبالغة وليست الصيغة للطلب كما في صيغة (استغفر)، وإنما هي بمعنى السرور والفرح، أي فَسُروا وأفرحوا ببيعكم، وفي الحديث عن أحوال المؤمنين التفات إلى خطابهم لزيادة التشريف والاستبشار.
جاء في تفسير روح المعاني: (…التفات إلى خطابهم لزيادة التشريف والاستبشار اظهاراً لسرورهم، وليست السين فيه للطلب، وألفاء لترتيب الأمر به على ما قبله، أي فإذا كذلك فاظهروا السرور بما فزتم به من الجنة)([218]) .
اما البشارة المقيدة فقد أعلمت الناس الذين لم يمتثلوا لأوامر الله بما يسوءهم ويحزنهم في باب التهكم والترهيب والتوبيخ، وهذه البشارة في رأينا أبلغ من البشارة المطلقة لان المخاطب أو المبشّر لا يتوقع تلك البشارة بهذا الأسلوب، يقول ابن عاشور (وقد قيد بعض العلماء معنى التبشير بأن يكون المُخبَر (بفتح الباء) غير عالم بذلك الخبر…)([219]) وهذا الأسلوب مثل قول العرب (تحيتكَ الضربُ، وعتابك السيفُ)([220]) .
ومن شواهده قوله تعالى (وَبَشِّرْ الّذينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أليمٍ)([221]) فالذين كفروا غير متوقعين البشارة التي معناها التهكم. والآية معطوفة على قوله تعالى (فَاعْلمُوا أنّكمْ غيْرُ مُعْجِزِي اللهِ)([222]) عطف جملة إنشائية على مثلها.
والفعل (بشر) مسند إلى النبي {صلى الله عليه وسلم}، فالله أمره أن يبشر هؤلاء الكافرين بعذاب شديد، فالتبشير للتهكم والإنذار.
وقال تعالى (كأنْ لَمْ يَسْمعْهَا كأنَّ في أُذُنيْهِ وقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أليمٍ)([223]) وقوله (ثُمّ يصرُّ مُسْتَكبراً كأَنْ لَمْ يَسْمعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أليمٍ)([224]) وقوله عز وجل (ويَقْتُلُونَ الَّذينَ يأمُرُونَ بالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أليمٍ)([225]) وقوله جل عُلاه (والَّذينَ يَكْنِزونَ الذَّهبَ والفضة ولَا يُنفِقونَها فِي سبيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أليمٍ)([226]) وقوله تعالى (واللهُ أعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أليمٍ)([227]) نجد في هذه الآيات ونحوها أن المبشَّر به (عذاب اليم) وقد تكرر خمس مرات وقد جُرَّ بحرف الجر الباء، كما إن العامل (بشّر) فعل أمر، وقد استعمل في البشارة المقيدة دون البشارة المطلقة، لان البشارة المقيدة هي بشارة تهكم وتهويل وترهيب وتوبيخ، وهذا يلائمه الأمر دون غيره من الصيغ.
اسم الفاعل وصيغة المبالغة:
اسم ألفاعل، اسم مصوغ لما وقع منه الفعل أو قام به.
يصاغ من الثلاثي على وزن (فاعل)، ومن غير الثلاثي على وزن مضارعه بإبدال حرف المضارعه ميماً مضمومة مع كسر ما قبل الآخر.. مثال الثلاثي: كاتب وقائم من كتب وقام.
ومثال غير الثلاثي: مُبشِّر، ومُعَلِّم ومعين من: بَشَّر، وعَلَّم، وأعان.
ويحول اسم ألفاعل عند قصد المبالغة إلى خمس صيغ مسموعة، وهي: فَعَال، نحو طعّان، ومِفْعال نحو مِضياف، وفَعُول نحو غَفور، وفَعيل نحو سميع وفَعِل نحو: حَذِر.
وهذه الصيغ لا تبنى إلا من الثلاثي، وندر بناؤها من غير الثلاثي نحو بشير ونذير من (بَشَّر) المضعف العين، و(أنذَر) المزيد بالهمزة في أوله.
ورد اسم ألفاعل من (بَشّر) بزنة مضارعه عشر مرات في آيات البشارة خمس مرات بصيغة الإفراد، وخمس مرات بصيغة الجمع، مثال صيغة المفرد قوله تعالى (وما أرْسَلْناكَ إلا مُبَشِّراً ونَذِيراً)([228]) .
وقع اسم الفاعل (مبشراً) حالا من الكاف في (أرْسَلْناكَ) الذي يعود إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} وقد جمع اسم ألفاعل وصيغة المبالغة (نَذِيراً) الشاذة وقال بعض المفسرين ان نذيراً هنا بمعنى منذراً، أي بمعنى اسم ألفاعل([229]) كما قال (ومَا نُرْسِلُ المُرْسَلينَ الا مُبَشِّرينَ ومُنذِرينَ)([230]) وقد قدم البشارة على الإنذار، لان المقام مقام بشارة ومثله قوله تعالى (يا أيها النَبيُّ إنا أرسَلْناكَ شاهداً ومُبشراً ونَذِيراً)([231]) .
في هذه الآية جمع بين (الشهادة والبشارة والإنذار) وقدم الشهادة لان المقام يقتضي ذلك، فالله تعالى أرسل نبيه {صلى الله عليه وسلم} شاهداً على أمته يوم القيامة، ومبشراً لها بالجنة، ومنذراً لها من النار. وبصيغة الجمع ورد قوله تعالى: (رُسلاً مُبَشرينَ ومُنذِرينَ لئلا يَكونَ للنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ)([232]) فقد جاء بمبشرين ومنذرين اسمي فاعلين من (بشّر) و(انذر) على الاصل، وهما حالان منصوبان بالياء لأنه جمع مذكر سالم.
وقد كنى الله تعالى بالتبشير والإنذار عن التبليغ، لان التبليغ يستلزم الأمرين الترغيب والترهيب، جاء في تفسير التحرير والتنوير: (وكنى بالتبشير والإنذار عن التبليغ يستلزم الأمرين وهما الترغيب والترهيب، فحصل بهذه الكناية إيجاز، إذ استغنى اللازم عن الجمع بينه وبين الملزوم)([233]) وهذا كثير في القرآن الكريم.
أما صيغة المبالغة فقد وردت في آيات البشارة تسع مرات، كقوله تعالى (إنَّا أرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشيراً ونَذيراً)([234]) وقوله عز وجل (أنْ تقُولوا مَا جَاءَنا منْ بَشيرٍ ولا نّذيرٍ)([235]) تجد في هاتين الآيتين انه قدم صيغة المبالغة (بشير) على صيغة المبالغة (نذير) وقدم الإنذار على البشارة في قوله (إلا تَعْبُدوا إلا اللهَ إنَّني لَكُمْ مِنْهُ نَذيرٌ وبَشِيرٌ)([236]) .
ترى ما سبب تقديم البشارة على الإنذار في الآيتين الأولى والثانية، وتقديم الإنذار على البشارة في الآية الثالثة؟
يجيب الالوسي على هذا السؤال بقوله (إني لكم من جهته تعالى نذير، أنذركم عذابه إن لم تتركوا ما أنتم عليه من عبادة غيره سبحانه، وبشيراً أبشركم ثوابه إن آمنتم وتمخضتم في عبادته عز وجل، وقد روعي تقديم الإنذار على التبشير ما روعي في الخطاب من تقديم النفي على الإثبات والنخلية على التحلية لتتجأوب الأطراف والتعرض لوصف الربوبية تلقين المخاطبين وإرشادهم إلى طريق الابتهال…)([237]) معنى هذا انه قدم الإنذار على البشارة لان المقام مقام إنذار ومنه قوله تعالى (إنْ أنَا إلا نَذيرٌ وَبَشيرٌ)([238]) .
قدم الإنذار وحصر الإنذار والبشارة بالا للتوكيد، والمعنى (ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة، وشأني حيازة ما يتعلق بهما من العلوم لا الوقوف على الغيوب التي لا علاقة بينها وبينهما)([239]) .
خلاصة القول أن (بشير) و(نذير) صيغتا مبالغة شاذتان، لأنهما من غير الثلاثي، فبشير من الثلاثي المضعف العين (بَشَّرَ)، ونذير من الثلاثي المزيد (أنذر). وله نظائر في القرآن نحو بديع في قوله تعالى: (بَدِيعُ السَمَوَتِ والارْضِ)([240]) فبديع (فعيل) من (أبدع).
وقد يكون معنى بديع بمعنى اسم ألفاعل (مبدع) شذوذاً([241]) وقد يكون (بشير) و(نذير) اسمي فاعلين بمعنى: مُبَشِّر ومُنذر جاء في صفوة التفاسير (البشير: المبشّر، وهو المخبر بالأمر السار والنذير: المنذر وهو المخبر بالأمر المخوّف ليحذر منه)([242]) وقد يكون (بشير) مبنياً من (بَشَرَ) المخفف العين على لغة تهامة([243]) وكذلك (نذير) فقد يكون من الثلاثي المجرد (نذر) في لغة من اللغات وبهذا لا يكون هناك شذوذ في الصيغتين.
أما مجيء اللفظتين بصيغتين مختلفتين أحداهما اسم فاعل وثانيهما صيغة مبالغة كما في قوله تعالى: (ومَا أرسَلْناكَ إلا مُبَشِّراً ونَذِيراً)([244]) فتعبير خاص، ربما قصد به المبالغة في الإنذار، ولم يقصد ذلك في البشارة، أو انه أراد بـ(نذير) منذر، فيكون قد سأوى بين اللفظتين في الصياغة والله أعلم.
ووردت اللفظة بصيغة الاسم على وزن (فُعلى) بمعنى (فِعاله) في سبع عشرة آية كقوله تعالى: (لهم الْبُشْرَى فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيا وفِي الآخرة)([245]) وتجد لفظة (بشرى) مسندة إلى الضمير (هم) العائد إلى المؤمنين. والاسم يدل على الثبوت والدوام، أي ثبوت البشارة إليهم. ومثله قوله عز وجل: (وَالَّذينَ اجْتَنبوا الطاغوت أنْ يَعْبُدُوها وأنابوا إلى اللهِ لَهُمْ الْبُشْرى)([246]) .
وتجد البشرى مقرونة بلفظ (الهدى) مقدمة عليها في قوله تعالى: (فَإِنَّهُ نَزَّلهُ عَلَى قَلْبِكَ بإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَديْهِ وهدى وبُشْرَى للْمُؤمِنِينَ)([247]) ، أي نزّل القران مصدقاً لما سلف من الكتب السماوية هداية وبشارة للمؤمنين([248]) .
ومثله قوله عز وجل: (قُلْ نَزَّلهُ رُوحُ القُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بالْحقِّ ليُثَبِّتَ الَّذينَ آمنوا وّهُدى وبُشْرى للْمُسْلمينَ)([249]) .
فقد قدم (الهدى) على (البشرى) والتقديم للرعاية والاهتمام، أي إن المقام مقام هداية بالدرجة الأولى ثم البشارة.
ونجده يقرن بين ثلاثة ألفاظ هي (الهدى والرحمة والبشارة) في قوله تعالى: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِكُلِّ شَيءٍ وهُدىً وَرَحْمَةً وبُشْرى للْمسْلمينَ)([250]) فزاد لفظة (الرحمة) لان المقام يتطلب ذلك وبقيت لفظة (هدى) متقدمة على الرحمة والبشارة، فالتعبير القرآني تعبير دقيق إذ توضع كل كلمة في مكانها حسبما يقتضيه المقام في السورة.
ووردت اللفظة مبتدأ مضافاً إلى كاف المخاطبين في قوله تعالى (بُشْراكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ)([251]) نجد في الآية أنه فصل بين العامل المقدر، لأنها بمعنى ابشروا ببشراكم، وبين المعمولِ (جنات) بظرف الزمان (اليوم)، وحذف حرف الجر، من (جناتٍ) فارتفع لأنه خبر لـ(بشرى)، والأصل (أبشركم اليوم بجناتٍ) والله اعلم.
ان اللغويين أجازوا في (بشرى) الرفع والنصب، ولم يجوزوا جر المبشّر به (جنات)، فالأصل: بشراكم اليومَ بجناتٍ كما في قوله تعالى: (ابشروا بالجنة)([252]) قال ألفراء (ترفع البشرى والجنات، ولو نويت بالبشرى النصب توقع عليها تبشير الملائكة كأنه قيل لهم: ابشروا ببشراكم، ثم تنصب جنات توقع البشرى عليها)([253]) وهذا ينزع الخافض.
ومع كل تأويلات العلماء فان القرآن يبقى معجزاً بتعبيره، وأسراره، متحدياً ألفصحاء على أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.


