أنت هنا

قراءة كتاب سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

كتاب " سرديات مقدسية - الشيخ ريحان " ، تأليف أحمد غنيم ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدم

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 10

عيون العتمة

تصحو المدينة كعادتها على مهلٍ قدسي كسول، لكنها سرعان ما تعج بالحياة، هواء نيسان هَفَّاف بارد في الصباح، لكنه لطيف في النهار، يتصاعد في الأنحاء عبق دخان خفيف لحطب الكينا الممزوج بطعم السمسم، رائحة الكعك المخبوز آتية من فُرن أبي رباح في عقبة درويش، هنا لا معنى لنهار خال من كعكة بالسمسم تُوحد فئات المدينة على مائدة الإفطار، فقراءها وأغنياءها.

استيقظ عيسى صبي الفرن باكراً جهَّز بيت النار بينما ما زال الليل يلف جسد المدينة، كان أبو رباح قد أدى صلاة الفجر حاضرا بالمسجد الأقصى وعاد إلى فرنه، خلع قُمبازه عن قميص من المنصوري الكالح وشمر ساعد العمل، أحكم ربط دكة شرواله الأسود الفضفاض، نزل إلى جورة بيت النار، تناول الكناسة ذات الشراشيب الطويلة، غمرها بالماء من حوض صغير إلى يساره، ثم دفعها مرة تلو أخرى، حركها فوق الأرضية الساخنة من طرف إلى آخر حتى تأكد من نظافة مرقد العيش، إلتفت إلى يمينه، تناول كمشة من طحين نثرها فوق بلاطة الرق، ضرب كفا بكف ونثر كمشة من السمسم فوق الطحين، إرتشف بعض الماء الطاهر من إناء أمامه، بخه فوق نثار السمسم وَرَقَّ بخفة قطعة من العجين المكوّر، دوّرها بعناية ثم وضعها فوق كفة الزانة الخشبية المستندة بذراعها إلى طرف الجورة الخلفي، رَقَّ قطعة أخرى من العجين المكوّر وبخ فوقها الماء، وضعها فوق الزانة وأتبعها بثالثة ثم رابعة، رفع الزانة، دسّها داخل بيت النار وسحبها وهو يميل بحافتها ناحية الجمر المشتعل بمهارة، فانزلقت كعكات السمسم صفاً فوق البلاط الساخن، وسرعان ما تنفست ونفخت صدورها، دسَّ أبو رباح كف الزانة من تحتها، رفعها بخفة بعيدا عن وهج الفود[58] مبدلاً صف بصف، احمرت وجنات الكعك، سحبه خارج بيت النار وألقى كعكة تلو أخرى في طرحة طويلة من خلفه.

وقبل أن تمدَّ خيوط النور ضياءها على بوابة الفرن، كان عيسى وعدد من باعة الكعك قد صفوا الكعك بطرحاتهم وانتشروا في أحياء المدينة، تصدحُ حناجرهم بلكنة مقدسية: "كعيك سخون" مع مدِّ الياء بكلمة كعك ومدِّ الواو بكلمة سخون بشكل مميَّز، قال عيسى لأحد زبائنه من زوار المدينة: تذوق هذا الكعك بالسمسم أيها السيد، لأنك لن تجده في أي مكان آخر، إنه واحد من أسرار القدس الكثيرة، مهما حاول الناس تقليد صناعته خارج القدس، وإن استخدموا نفس المكونات فلن يحصلوا على المذاق نفسه.

عند يسار المدخل الشمالي لباب خان الزيت من ناحية باب العامود، ألقى عمر تحية الصباح على عيسى صبي الفرن بائع الكعك، وتناول على عجل كعكة بالزعتر المملح ثم واصل طريقه نحو دكان أبي فؤاد الهدمي بائع الأجبان عند مدخل السوق بجوار جامع الشوربجي، سلمه دلة حليب كبيرة، وأكمل طريقه إلى السوق كعادته، ناول أبا جمال شاور بائع المشهيات عند مفرق حارة النصارى دلة حليب أخرى وتابع سيره، بدأ الصبح يفرد جدائله الذهبية في الأنحاء وبدأت الفلاحات القادمات من القرى المجاورة بأثوابهن المطرزة البديعة وشالاتهن البيضاء الملائكية الساحرة، ينتشرن في غير مكان من السوق، كُنَّ يحملنّ على رؤوسهنّ أسفاط الخضروات والفاكهة التي عملن في زراعتها موسماً كاملاً، وسهرن ليالي ليحضرنها إلى السوق طازجة شهية، فردت أم ناصر القادمة من قرية قطنّة شمال غرب القدس سفط الباذنجان الأسود، إلى جوارها افترشت أم جعفر القادمة من قرية سلوان بسفط البقدونس والنعناع والفجل البلدي الأرض، نهرهما أبو وليد البيتوني بائع الخضار، وطلب منهما أن تأخذا زاوية الطريق حتى لا تسدا بأسفاطهن بوابة دكانه مقابل معصرة اللداوي، لا يشغل بال المرأتين سوى إرضاء أبي الوليد بكش الذباب عن بضاعته كما عن بضاعتهن كي تخففا من وطأة المنافسة التي يشعر بها تجاههما. أما أكبر هم أم ناصر فكان كيف توفر من مدخول أسفاطها تلك بعد أن تلبي طلبات صغارها الثمانية، بعض النقود وتُحَرِّز عليها، حتى يعود ولدها ناصر في إجازة الصيف من الدراسة في الأزهر الشريف ويحمل معه عند رجوعه إلى هناك الزيت والزعتر والقطين، وأمنيات أمه وأهل بلدته، والنقود التي صَمَّدتها له والدته لعام دراسي كامل. وما كان هم أم جعفر مختلفا سوى أنها كانت قد فقدت إحدى عينيها وهي تذود عن زوجها، عندما دهم جند التاج البريطاني بيتها في سلوان عشية أحداث النبي موسى.

شيئاً فشيئاً بدأت الحوانيت تفتح أبوابها وبدأ السوق يعج بالناس، تعالت أصوات الباعة تندح بسيمفونية السوق اليومية، تنادي للباذنجان البتيري وريحاوي أبو نملة يا موز، وخليلي يا عنب، يافاوي يا برتقال، وحمرة يا خدود الست.

لم يشعر عمر بجمال هذا الصباح، وهو يطبعُ على وجه المدينة لوحة لمجد الحياة تدب في كل مكان، توافد الناس من كافة أبواب المدينة وحاراتها، نساء بأثوابهن المطرزة بهية الألوان، رجالاً بكوفيات بيضاء وقنابيز الروزا والعباءات المدندشة من أطرافها بخيوط ذهبية، وآخرين بجلابيب مرتوقة وأثواب ومُسوح بالية، وبعضاً من سادة وأعيان المدينة بطرابيشهم الحمراء ومنشاتهم البيضاء تفح منها روائح العطر وندح العيش بينما يتدافع من حولهم أطفال بأقدامهم الحافية، وسراويلهم المرقعة ودشاديشهم وصدورهم العارية أحيانا وابتسامة شفاههم الموصولة إلى قلوب بريئة.

ما زال الندى رطبا نئيشَ النتح[59] على حجارة الطرقات، هنا إلى اليمين معصرة الحاج حلمي الطزيز، وإيقاع أقدام تراقص لزيج الكسبة ورائحة السمسم، وهناك رائحة الزعتر والتوابل تتضوع من دكان العم شنار الغاضب على الدوام من العرب والانجليز واليهود وباقي الأنام، وثغاء شياه وأخرى معلقة على الكلابات في ملحمة بن يحيى، صاحب البسمة التي لا تزول، وعربات تحمل ما لذ وطاب من فاكهة وخضروات، صواني البُرمة والبقلاوة والكنافة في صدر الطريق، وبائع العوامة والزلابيه يحمل بيمينه ملعقة صغيرة وتقبض يساره عجينته البيضاء الطرية، يحرك يديه كأنهما تتراقصان مع رذاذ الزيت الساخن المتطاير من القدر الكبير، كرنفال مقدسي، هو متعة الحياة التي تعوَّدها عمر، لكنه اليوم لا يشعر بروعة هذا المشهد الخلاب لنشوة الحياة تدب في السوق، كان مأسوراً بما شاهد وسمع من الشيخ ريحان، طفا على سطح أفكاره أن يزور كل أولياء المدينة، الشيخ مكي، والقرمي والشيخ حسن، عله يتأكد أنهم نائمون في مقاماتهم، لا يخرجون منها ولا يحدثون المارة عن أمجادهم الضائعة، عاد أدراجه مروراً بعقبة الشيخ ريحان ومقامه من جديد، أراد أن يواجه خوفه وضعفه وحيرته القاتلة، تقدم بخطى متسارعة، اقترب من بوابة المقام، قرأ الفاتحة وقال السلام على ساكن المقام، جهَّز نفسه لكل طارئ، وأغلب ظنه أن الشيخ سيرد عليه السلام، أحسَّ بثقل اللحظة، ساد صمت عميق، أبطأ الخطى علَّ الشيخ يفتح الباب ويأتيه من تحت خط الضياء بصوته الذي يفهق ستار الزمن، إنتظرَ برهة من وقت... ما من طلَّة ولا صوت ولا إجابة، لا مكان في حيِّز واحد لزمنين في آن معاً، واصل سيره باتجاه عقبة شداد، ماراً بالحوانيت وأفران الحطب والبيوت المتلاصقة بحجارتها القديمة ونوافذها المطلة على الطريق، كان يسمع أحياناً صوت طفل يُلقي عليه السلام، وأحيانا يقف مع أحدهم لتبادل أطراف الحديث، حرص على أن يُلقي التحية على كل من يلقى في طريقه حتى لا يظنّ الناس به الظنون، وصل إلى مفترق يهبط بزقاق ذي درجات طويلة من عقبة شداد إلى باب حطة، عند منتصف الدرج توقف أمام مقام الشيخ حسن، سلَّم على ساكن المقام، أشعل عند النافذة شمعة صغيره، قرأَ بسره فاتحة الكتاب، قال لنفسه: سامحك الله يا شيخ ريحان، ألا ترى كيف ينام الشيخ حسن في مقامه بسلام، لا يتجول في الطرقات ولا يزور البيوت ولا يُحدثُ المارة، لم نسمع من أحدٍ يوماً أنه اعترض طريقه، أو طلبَ زيتاً أو شموع، قال في سره لا حول ولا قوة إلا بالله. تابع سيره شمالاً باتجاه عقبة حب رومان، وفجأة سمع صوتاً ينادي:

- عمر.... يا عمر، أقبل إليَّ، أين أنت يا رجل؟

الصفحات