أنت هنا

قراءة كتاب الحكم العطائية شرح و تحليل - المجلد الثاني

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الحكم العطائية شرح و تحليل - المجلد الثاني

الحكم العطائية شرح و تحليل - المجلد الثاني

كتاب " الحكم العطائية شرح و تحليل - المجلد الثاني " ، تأليف محمد سعيد رمضان البوطي ، والذي صدر عن

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 1

الحكمة الثامنة والأربعون

«من علامات موت القلب عدم الحزنعلى ما فاتك من الموافقات، وترك الندمعلى ما فعلتـه من وجـود الزلاّت»[1]

ما المراد بحياة القلب وموته، في مصطلح التربية الإيمانية التي نحن بصددها؟

عندما يكون القلب عامراً بمشاعر حب الله وتعظيمه والخوف منه، فهو إذن قلب حيّ. وعندما يكون خالياً عن هذه المشاعر، فهو إذن قلب ميت. ولكل من حياة القلب وموته آثار هامة تتجلى في حياة صاحبه وسلوكه، وأنت تعلم أننا لانعني بالقلب هنا تلك العضلة التي يتحدث عنها الأطباء وتخضع لعلاجاتهم وعملياتهم المختلفة.. وإنما نعني به في هذا الصدد المشاعر التي تنعكس، بفعل الروح، على هذه العضلة، مما يسمى بالعواطف الدافعة والرادعة والممجدة..

وإني لأفترض أنك قد تسأل ناقداً، أو مستشكلاً، بعد أن عرفت معنى كل من القلب الحي والقلب الميت: لماذا لاتكون علامة القلب الميت ارتكاب الزلات، من حيث تكون علامة القلب الحي النهوض بسائر «الموافِقات» أي الطاعات. ومصدر هذا السؤال أو الاستشكال أن من شأن القلب العامر بحب الله وتعظيمه والخوف منه أن يحمل صاحبه على أداء سائر الطاعات والابتعاد عن جميع المحرمات. إذ لا ثمرة لحياة القلب الحيّ إلا ذلك، ومن ثم فالمفروض أن يكون المتورط في الزلاّت ذا قلب ميّت، سواء داخله الندم على ذلك أم لا.

والجواب عن هذا الاستشكال أن الله، لحكمة باهرة، متع الإنسان بفطرة إيمانية ترقى به إلى مستوى الملائكية، وجهزه بقلب مهيأ لأن يكون وعاء صافياً لأقدس حب في الكون، ألا وهو حب الله عز وجل، وقضى بأن تكون الروح السارية في كيانه، سراً هابطاً إليه من الملأ الأعلى، منتمياً بنسب التكريم والتمييز إلى ذاته العلية، ومن ثم فهي تظل في حنين دائم إلى العالم العلوي الذي أهبطت منه، وفي شوق شديد إلى الذات الإلهية التي شرفها بخصيصة التمييز والتكريم.. إذن فالكيان الإنساني مهيأ قلباً وروحاً لأن يفيض بأسمى مشاعر الحب والتعظيم والمهابة لله عز وجل.

أما الطاقة التي يتمتع بها الإنسان، فقد قضى الله عز وجل، لحكمة باهرة كما قلت، أن تكون مشدودة إلى كثير من عوامل الضعف. فقد شاء الله تعالى أن تكون قدرته الجسمية والمادية محدودة، وأن تتسلط عليه نوازع الغريزة بكل أصنافها وتطلعاتها، وأن تتسرب إليه وساوس الشياطين، وأن تهتاج بين جوانحه نيران الشهوات المختلفة، إلى جانب الفطرة الإيمانية التي متعه الله بها ، وموازين إدراك الحقائق التي جهز دماغه بها. وهكذا فقد غدا الإنسان محور صراعٍ وملتقى أطماعٍ لهذه العوامل المحيطة به كلها، وكان لابدّ أن يصبح ضعيفاً تحت وطأة هذا الصراع الدائب، وتلك هي الحقيقة التي أخبر بها البيان الإلهي القائل: {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 4/28] .

إذن فالكيان الإنساني يحوي طاقة علوية تتجه بالحب والحنين إلى الملأ الأعلى، وتتمركز هذه الطاقة في الروح التي تعكس ايحاءاتها إلى القلب. إلا أنه في الوقت ذاته يعاني من ضعفٍ آت من تسلّط العوامل الغريزية والشهوانية والوساوس الشيطانية، ومحدودية الطاقة الجسدية.. فينشأ التناقض عندئذ بين الطاقة الروحية التي يترجمها القلب إلى مشاعر الحب والخوف والتعظيم، والضعف الطبيعي الذي تترجمه الغرائز والأهواء والشهوات.

فما هي النتيجة التي تنشأ من هذا التناقض؟

النتيجة التي لامحيص عنها هي الوقوع بين جاذبي الخطأ والصواب، أو الطاعة والعصيان، وصدق رسول الله القائل: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»[2].

تعلو به الروح ومشاعر القلب نحو الطاعة، وتسمو به صعداً لأداء حقوق الحب والمهابة والتعظيم، وتثّاقل به أعباء الشهوات والغرائز والضعف البشري إلى حظوظ النفس وأهوائها، فيصيب ويخطئ، ويستقيم على الصراط ويتعثر، ويطيع ويعصي.. ذلك هو شأن الإنسان، بل ذلك هو شأن المسلم في كل زمان ومكان، حاشا الرسل والأنبياء فقد ميزهم الله بالعصمة عن الانحرافات والآثام، ليتأتى لهم النجاح في الدعوة إلى الله، والنصح بالسير على صراط الله، وليكونوا في حياتهم وسلوكهم قدوة للآخرين.

ولكن، ما الحكمة من هذا التناقض بين تسامي الروح والقلب إلى عالم الاستقامة والحب وآمال الانقياد الدائم لأمر الله، واتجاه الكيان البشري مثقلاً بالغرائز إلى حيث الشهوات والأهواء؟.. ما الحكمة من قيام التناقض بين قوة الحب الرباني المهيمن على الفؤاد، وضعف الطاقة البشرية المهيمن على الذات والكيان؟

الحكمة أن يرى العبد المؤمن بالله عز وجل من هذا التناقض، مشكلة لا مخلص له منها، إلا الفرار إلى الله والاستعانة به.. يفرّ إلى الله من ضعفه، ويلوذ به من وقع غرائزه وضراوة شهواته، ويسأله ألاّيكله إلى نفسه وألاّيتركه لسلطان أهوائه ووساوس شيطانه.. معترفاً بأنه ضعيف مهين، لايملك - من دون معونة الله له - حولاً ولا قوة.

الصفحات