أنت هنا

قراءة كتاب دور الدين في المجتمع

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
دور الدين في المجتمع

دور الدين في المجتمع

كتاب " دور الدين في المجتمع " ، تأليف د.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 8

ب- على مستوى المجتمع

1- لكل جماعة مهما صغر حجمها ثقافة، وفي كل ثقافة نسق للقيم يحدد لأفراد المجتمع أنماط السلوك التي يجب السير فيها. ومع أن لنسق القيم أكثر من مصدر، والدين واحد منها، إلا أن الدين يضفي على القيم قداسة تقويها، وتؤكد احترام الجميع لها، بل الخضوع لها دون نقاش. ومن شأن هذا الوضع أن يرفع من درجة انضباط أفراد المجتمع، ويمكّن أولي الأمر من إصدار أي أوامر، بما في ذلك التي قد تتعارض مع مصلحة الفرد، وأن يضمن انصياع الرعية لها.

2- يعمل الدين على المحافظة على السلام والأمن الاجتماعيين في داخل المجتمع الواحد. ففي أي مجتمع لا تتوزع الثروة ولا القوة بالتساوي بين أعضاء المجتمع، مثل هذا الوضع من شأنه أن يكون مصدراً لحالات عدم الرضا والرفض والتململ الاجتماعي وحتى الثورة. وتساعد برامج توظيف تفسيرات كثير من النصوص الدينية، التي تكون مصادر القيم الرئيسة، على خفض درجات التوتر. لا تقضي هذه البرامج على حالات عدم الرضا نهائياً، ولكنها تعمل على عدم تعقدها، وتحولها إلى حالة من حالات التململ الاجتماعي، الذي إذا استمر، وتوافرت ظروف مناسبة، انفجر على شكل حالة من التمرد الواسع والفوضى.

3- من طبيعة المحافظة على الحياة اهتمام الفرد بنفسه، وبما يضاعف مصالحه، ولكن إذا حصر كل فرد جميع أنشطته لخدمة مصالحه الخاصة استحال بناء مجتمع مستقر، لذلك من الضروري أن يخصص كل فرد جزءاً من مجمل نشاطه لخدمة آخرين، وخدمة مصالح عامة. وهنا يقوم الدين بدور هام في تقوية الرغبة في خدمة الآخرين، وخدمة المصالح العامة، بما يقدمه من وعود لمكافآت في حياة ما بعد الموت. ووجود فكرة الحياة الأخرى من شأنه أن يعطي لتصور الفرد للحياة استمرارية، وبعداً يقوي عدداً من الأفكار التي من شأنها خدمة تماسك المجتمع واستمرارية وحدته مثل التضحية والأثرة والخير.. إلخ.

4- يحتاج الفرد إلى الشعور بالانتماء إلى كيان اجتماعي صغير مثل الأسرة أو الحي أو المدرسة أو جماعة العمل، ويكبر الكيان قليلاً ليصل إلى المدينة أو القبيلة، ثم يكبر ليصل إلى الوطن فالأمة. عوامل كثيرة تعمل على ظهور هذه الانتماءات، ثم لتقويتها ولاستمرارها. يقوم الدين - بما يتضمنه من قواعد - بدور هام لكسب هذه الانتماءات قوة. تتصل هذه القواعد بمختلف أشكال الوحدات الاجتماعية؛ فبالنسبة إلى الأسرة، يحتوي الدين على قواعد كثيرة تؤكد أهمية الأسرة، وضرورة الحفاظ على علاقات قوية بين أعضائها، بما تبينه من واجبات كل عضو تجاه الآخر، وحقوق كل عضو من أعضائها، ثم تقوم الأسرة بدور هام في تعليم أبنائها كيفية المحافظة على انتماءات أكبر. وبصفة عامة يعمل الدين على بناء مشاعر هامة وهي المشاعر المتعلقة بالهوية.

لعل الهوية من بين المفاهيم التي ما زالت الاختلافات حول تحديد معناها كثيرة، ولكونها من بين أهم المفاهيم المستخدمة في مجال العلوم الاجتماعية لوصف قضايا الحياة الاجتماعية اليومية، فإن كثرة الاختلافات حول تحديد المفهوم لم تؤثر في تواتر استخدامه بمعدل يومي. ومع تنوع التعريفات إلا أن بعضها وضع في صورة مبسطة؛ فمثلاً قيل إن الهوية هي تلك الصورة التي يقدم بها الفرد نفسه للآخر، ويجتهد في التصرف أمام الآخر بما ينسجم مع حدود هذه الصورة ( Holland, et Al., 2001: 3 ). ومع بساطة هذا التعريف إلا أنه يفي بالغرض العام لهذا البحث. ولكون الفرد يعيش في وسط جماعة يرتبط مع أعضائها بعلاقات اجتماعية، يتوقع أن يطور في وقت مبكر تصوراً عن هويته؛ فهو يدرك بداية في داخل الأسرة هويته النوعية؛ من لون الألبسة التي تخصص له، ومن نوع المعاملة التي يعامل بها في أثناء الأنشطة اليومية. ثم يدخل بعد مدة في علاقات مع جماعات أكبر حجماً من جماعة أسرته المباشرة؛ الأقارب، والجيران، وجماعة اللعب في الشارع، ثم المدرسة وهكذا.

نوع آخر من العلاقات ليست مباشرة بهذا الشكل، وهي التي تربط الفرد بجماعات حجمها كبير؛ من جماعة التيار السياسي وجماعة المدينة، إلى جماعة الوطن، وانتهاء بجماعة الأمة. يفخر الفرد بانتماءاته ويفاخر بها مع من يختلف معه، ويظهر هذا على مستويات مختلفة؛ الأسرة، القرية، المدينة، القبيلة، القطر وهكذا. يفخر الفرد بانتمائه إلى جماعات، وإلى جانب هذا يحتاج هو إلى الشعور بالانتماء. يمكن أن يختار الفرد بعض انتماءاته كالانتساب إلى تيار فكري أو سياسي أو جماعة علمية أو مهنية، لكن بعض أهم انتماءاته لم يكن له فيها حرية الاختيار، وهنا يكون للدين دور مهم في انتماء الفرد إلى فضاء أرحب من حيث المساحة والعدد والتاريخ؛ فالدين يوحد بين أفراد ينتمون إلى وحدات سياسية مختلفة، وإلى أزمنة تاريخية مختلفة. ويساعد توسيع مجال الانتماء على أن يشعر الفرد بأهمية خاصة، فالمشاعر التي يشعر بها الفرد بالانتماء إلى جماعة كبيرة الحجم تختلف عن مشاعر الانتماء إلى جماعة صغيرة.

منذ البداية يكون الدين موجوداً في تكوين صورة الفرد لنفسه، ففي جميع هذه الجماعات التي أشير إليها آنفاً يعرف الفرد أن له ديناً. علاقة الأفراد بالدين في المجتمع نفسه ليست واحدة، لذلك يختلف أعضاء المجتمع الواحد في هوياتهم الدينية. ففي البداية لا يختار الفرد لنفسه ديناً، وإنما ينتسب إلى دين بحسب تربيته المنزلية. ومنذ البداية يتعلم الفرد قواعد الإيمان، وممارسات العبادة، وأنماط السلوك المنسجمة مع قواعد الإيمان. ويظهر اختلاف أفراد المجتمع الواحد في درجات انتماءاتهم الدينية، ويتمثل في مناشط العبادة، وفي أنماط السلوك.

لا تتكون الهوية الدينية دفعة واحدة، وإنما هي عملية تستمر لمدة زمنية، وتتأثر بعوامل محلية، وذاتية، وخارجية (Browne, et al., 2003: 1 - 4). تبدأ عملية تكوين الهوية الدينية بناء على عوامل محلية ليس للفرد سلطة عليها؛ عوامل موجودة في البيئة المحيطة بالفرد مباشرة؛ في داخل الأسرة أو ما يشابهها، ثم تنشط فيما بعد عوامل ذاتية تساهم بنصيب في تشكيل الهوية وتتمثل في درجة الإيمان، وفي درجة الالتزام بتأدية الشعائر، وفي درجة الالتزام بثوابت الدين في أنماط السلوك اليومية، ثم في درجة الاجتهاد في تفسير النصوص، وفي درجة التشدد، وفي درجة توظيف الدين في مجالات الحياة العامة من سياسية إلى اقتصادية، وهكذا.

تتأثر صورة الهوية الدينية بعوامل خارجية عندما يدخل الفرد في علاقات اجتماعية مع جماعات تختلف مع جماعاته المرجعية في الخصائص الثقافية وفي الدين، فقد يجد الفرد نفسه بحكم وجوده على كرسي الدراسة، أو في مكان السكن، أو في مكان العمل، في علاقات مع جماعات مغايرة له دينياً. تتيح بعض المجتمعات هذه الفرصة في داخل المجتمع، ولكن يحدث في أحيان كثيرة أن تتأتى هذه الفرصة في حالة السفر إلى خارج البلاد. يختلف الأفراد في تعاملهم مع هذه الظروف بالنسبة إلى الإعلان عن الهوية الدينية، وإلى الكيفية التي يقدم بها هويته للآخر. قد تحدث هذه العوامل الخارجية تأثيرات في هوية الفرد الدينية الأصلية، كما أنها تأخذ أشكالاً مختلفة؛ فقد يبدأ الفرد بتصور أن الدين المنتمي إليه هو الدين الحق، وعلى المختلفين تغيير دياناتهم، وفي هذه الحالة قد يقوم بأنشطة متنوعة لتنفيذ ما يؤمن به على أنه الحق، لذلك لم يقبل المهاجرون من أوربة إلى بلدان استعمروها بالديانات المحلية، وعملوا بمختلف الطرائق والوسائل على تنصير المواطنين الأصليين. قد يحدث في بعض الأحيان أن يغير الفرد من درجة تمسكه، ويقبل بالآخر، ويعترف به، ويدخل معه في حوارات وفي تحالفات، وقد تحدث تغييرات في درجات تمسكه بدينه وبمزاولة الشعائر، وقد تذهب التغييرات في اتجاه معاكس بحيث ترتفع درجة تعصبه وتطرفه، أو انتقاله إلى الجانب الآخر.

ليست الصورة السابقة التي رسمت لتكون الهوية الدينية الصورة الوحيدة الممكنة، ففي حالات كثيرة وفي مختلف الأديان قد يولد شخص في أسرة تنتسب اسمياً للدين من دون مزاولة أية واجبات دينية، وقد يولد طفل في داخل أسرة لا تدين بدين. قد يقرر هذا الطفل فيما بعد الانتماء إلى دين يختاره، وقد يمر قبل اختيار هوية دينية بمناقشة مكونات عدد من الأديان، ويبدو أن درجة تدين من يمر بمرحلة التفكير في مكونات الدين سواء الذي اختاره بنفسه، أو الدين الذي وجد عليه والديه، يكون انتماؤه الديني قوياً بالمقارنة مع زملائه. وفي دراسة بين شبان مسيحيين وُجد أن الشاب يمر في حياته بمرحلة يشكك فيها في ثوابت الدين، وقد يصل إلى درجة يرفض فيها الدين نهائياً ( Bellah, et al., 1990: 60 - 62 )، وليست هذه النتيجة حكراً على الدين المسيحي. قد تقصر مرحلة الرفض وقد تطول، أي قد يستمر الشاب في مرحلة الرفض، وقد يرجع للدين وبدرجة قوية.

يوسع الانتماء الديني المساحة الجغرافية للفرد؛ لأن الدين في أغلب الحالات موجود عبر الحدود السياسية للدول. وبغض النظر عن المساحة الجغرافية التي يكون فيها الفرد في داخل حدود سياسية، توسع الهوية الدينية - من الناحية النظرية على الأقل - المساحة الجغرافية التي يمكن للفرد التنقل عليها. كما يساهم البعد العددي في تقوية مشاعر الفرد بأهميته، وتصبح درجة أهميته أكبر من التي تقدمها له الهوية الوطنية. لا يعني هذا أن التنقل الفعلي عبر الحدود السياسية يتم دون عوائق، لكن إمكانية هذا التنقل عند الحاجة موجودة على المستوى النظري، ويعطي الشعور بإمكانية حصول الفرد على الدعم بأشكاله المادية والمعنوية قوة خاصة. وعليه يمكن القول إن الهوية الدينية من شأنها أن تدعم مختلف انتماءات الفرد وتقويها.

الصفحات