كتاب " باردة كأنثى " ، تأليف إسماعيل يبرير ، والذي صدر عن منشورات ضفاف ، ومما جاء في مقد
أنت هنا
قراءة كتاب باردة كأنثى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
صعدت السّيارة بينما تخلّصتُ من فتاة الشّارع وريبة الزّبون؛ ألا يفترضُ أن تخشى بائعة الهوى زبائنها؟ تدحرجتْ الدّقائق إلى الثامنة والنصف، لا بدّ وأنه قرن سريع آخر، كنت أتأمّل عقرب الثّواني وهو يدور كأنه يهمسُ لعقرب السّاعات كلّما وصل إليه "سأعود بعد دقيقة"، بدا منضبطا ووفيّا يعود دائما عند وعده دون أن ينسى العبور على قامة الدّقائق الفارعة، رائحة الخمر كانت تحوّل فخامة السيّارة إلى ما يشبه المرحاض العمومي، يفترض أنّه زبون مميّز للفتاة التي خلّفتُها، ويفترض بـي أن أدوّن إعلانا شاذّا على سيارته كما أقرأ في المراحيض العمومية.
"الحمد لله يا خو رجع الأمان"
لم أنبس ببنت شفة، أكره الحديث عن الحالة الأمنية للبلاد، أكرهُ المتفائلين والحالمين بغير سبب، أكره تذكّر كلّ الرّعب الذي عششّ داخلي دون الكثيرين، كأنّ الرّجل انتبه إلى صمتي فغيّر الموضوع
"ربما أنتَ في سياحة؟"
أردت أن أصرخ في وجهه المتدفّق من ملامحه الأولى "أنـزلني هنا" لكنني تراجعت وبادرته بالغباء الاجتماعي المناسب:
- بعت سيارتي لهذا انتابني شعور بالعري
- أنا لم أمش منذ تخرجي من الجامعة
قلت في نفسي: أكيد منذ تخرّجت من الجامعة وأنت تنهبُ حظوظ الآخرين في بلد لا نتكافأ فيه إلا في الموت، وكأنّي به استشعرَ شيئا مما يدور داخلي.
"تعبنا، تعبنا كثيرا من أجل الوصول إلى درجة ترضينا على الأقل نستطيع أن نعيل نساءنا وأبناءنا"
نساؤهم...؟؟ يبدو تماما كم يشقى بهذه الكرش الضّخمة والسيّارة الفخمة، تذكّرت أبـي الذي وهب البلاد كلّ سنين شبابه وكهولته ولم يحظ بمكافأة على إخلاصه وتفانيه، لم يوفر حتّى ثمن العمرة أو الحج وكلّما تحدّثوا عن الحج أو العمرة فاضت عيناه اشتياقا إلى جدّه رسول الله؛ هكذا يقول الشّيوخ في مدينتي عن الرّسول، أبـي كذلك كان متعبا. رفعت رأسي فاذا نحن ندخل "ليزاسفوديل"[4] بحي "بن عكنون"، أصبحت الآن على يقين أن الرّجل زبونٌ وأكاد أفهم مؤدى "نساءنا" التي لفظها منذ قليل، توقّف عند نهاية الشّارع، فتحت الباب دون أن أشكره، رميت برجلي الدّامية الباردة خارجا وأدركت أنه ينبغي لي أن أتّسم ببعض من اللّياقة، أنقذني صوته الذي بدا وكأنه يصحو من الثمالة قبل جسده الكتلة المتعبة...!
- ربـي يعاونك يا وليدي
- يرحم والديك يا خويا
كان له وجه ساخن، كان لي وجه باردٌ.
لعلّه كان مشتّتا بيني وبين فتيات اللّيل الجامعيات اللّواتي يرقدن بالحيّ الجامعيّ المحاذي لوزارة الأشغال العمومية، في الغالب هنّ مبهورات بالمجتمع اللّيلي، بالسّيارات الأنيقة، بالهدايا وربّما بالويسكي والرّيكار والباستيس والرُّوج وكلّ الخمور التي يعرفن، أجسادهن في خدمة ليلية مستمرة على الأقلّ أصبن الشّهوة والمال والنفوذ والشّهادة، والتي تسأم تعود من حيث أتت بعدما تعيد تأهيل الحياء والشّرف الذين يحوزهما ابن عمها المغدور في احتفال عظيم. إنه عالَمٌ جبان، أنا عندما كنت فتاة شارع لربع ساعة لم أكن لأخدع أحدا.
وماذا عنكِ أنت؟ بالقدَاسة التي تحملين لم تعودي لي، ربّما لأني المدنّس وأنتِ المقدّس لم يكن يصلح أن نظلّ معا، أفكّر الآن لو أني اتّخذت عشيقة من بنات الحيّ الجامعيّ كان الأمر سيغدو صريحا وواضحا، فاسق وقروية تتبضّع من المدينة شهوةً وحياةً وحريةً ورجلاً في منتهى التحضّر، لكنتُ أنا المساحة التي توفّر كلّ ذلك وعندما تعود هي إلى القرية أو المدينة البعيدة ستحتفظ بذكريات مثيرة إذا ما قيست بحياتها اللاّحقة الآسنة، أمّا أنا فكنت سأجد لي أخرى، وهكذا كلّما حان وقت رحيل واحدة بكت قليلا على صدري المبتذل، ولكنها لن تنسى أن تطلب مالا إضافيا في العشاء الأخير.
وحدكِ كنتِ مدينةً وحضارةً ومذهبا متفرّدا وفنا في الإنوجاد، فمِن أين أمضي إلى أين؟
ترى ما الذي تفعلين الآن؟
حتما أنت تعيدين توضيب حياتك على عزف فارسك الشّهم، ترتبين أولوياتك بينما لا أثر لي في ثانوياتك، هل تقرئين؟ تذكّري إذن أنني طالما حدّثتك عن حلم الكتابة قبل أن أصبحَ مشرّدا فارّا من السّكين والرّصاص والسّجن، تذكّري أنّنا كثيرا ما كنا نقرأ معا وكنتِ تندهشين من كلّ هاته الثقافة التي لديّ وأنا لا أملك كتابا واحدا ولم أكن أرى الثقافة التي ترين، تذكّري وأنتِ تنفين ذلك الصّعلوك من أفكارك إذ ينام رجلٌ جديد على بطنكِ رقْصنا معا، لاحظي أنّ رجلكِ يحظى بأمرين لم أعد أملكهما "الجِدّة" و"بطنك"، أمّا أنا فقد بكيت لأجلي أكثر مما كنت لتبكين لو متُّ، كنتِ من قال لي بالمستشفى "لديك سطوة على الزّمن وعليَّ، أنتَ أكبر مما أنت عليه"، أنا لا أهذي لقد قلتِ هذا وكتبته لاحقا في رسالة، لقد كان يُعدّ نفسه ليكون أفضل، لا يهم الآن إن كان الأفضل أو اللاّشيء، إن كان سكّيرا أو زاهدا، لا يهمّ الآن من هو وما حكايته، ثمّ إنّ مجرّد التّفكير في حكاية الموت والمنفى والخوف والرّجاء والجوع والمرض والخيانة كفيل بالموت، حكايتكِ تبدو أهمّ وأبهى وأنت تركلين المدنّس خارج مقامكِ المقدّس.
وأنا أنخلع كان صوتكِ يأتي من خلف جهل البنايات الباردة بتاريخنا القديم، وضحكاتك إيقاع يأخذ الأشجار ويعيدها في تموّجٍ يذكّرني برقصكِ.