أنت هنا

قراءة كتاب الشعر في العصر الأموي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الشعر في العصر الأموي

الشعر في العصر الأموي

كتاب " الشعر في العصر الأموي " ، تأليف د. غازي طليمات و أ.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8

هـ- سماتُ الحكم الأموي

يشقُّ على الدارس أن يسم الحكم الأمويَّ بسمات تميزه من حكم النبي صلى الله عليه وسلم وحكم الراشدين رضي الله عنهم ما لم يرسم صورة سريعة الخطوط والألوان والأظلال للنظام السياسي في عهدي النبوة والخلافة الراشدة، لأن أنظمة الحكم في كل أمة من الأمم ينجم بعضُها عن بعض، أو يتأثر بعضها ببعض، على نحوٍ من الأنحاء. فاللاحقُ - وإن خالف السابق في بعض الجوانب - يوافقُه في جوانب أخرى.

النبيّ r كان الحاكم في السلم والقائد في الحرب، والمشرّع والموجّه في كل حين، يشرح للناس أمور دينهم، ويرسم لهم سلوكهم في دنياهم، مستنداً إلى تفويض إلهي. وليس لأحد أن يعارضه أو يخالف عما يأمرُ به، وينهى عنه، تطبيقاً وتصديقاً لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 59/7] . وإذا أردت أن تُسمّي هذا النظام القديم باسم جديد فقل إنه حكم إلهي أو ديني (ثيوقراطي)، لأنه مستمدٌّ من الله، ولأن سلطاته الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية كانت في يد النبي صلى الله عليه وسلم، لا ينازعه أحدٌ شيئاً منها.

وتركيز السلطات في يد واحدة لم يكن يعني الاستبداد، وإنما كان يعني الطاعة المقرونة بالتقوى، والإسلامُ نفسه يعني أن يسلم الإنسانُ نفسه لله وللرسول، وهذا الفهم أراح الرعية من التفكير في المعارضة، ولم يُغْرِ الراعيَ في الاستئثار بالرأي، لأن الله الذي خَوَّله الحكم بين الناس أمره بأن يشاور الناس لتعتدل كفتَّا الراعي والرعية، قال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 3/159] . وقال أيضاً: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 42/38] . ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يجد أدنى غضاضة في تقبل الآراء السديدة من أعلام الصحابة وأغفالهم، غير متحيز لمشهور على مغمور. وأدلّ ما يدلك على صدره الرحب موقفان أحدهما في غزوة بدر، والآخر في غزوة الأحزاب:

في حديث ابن هشام[4] عن غزوة بدر: «أن الحباب بن المنذر بن الجموح، قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنـزل؟ أمنـزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدَّمه، ولا نتأخَّر عنه؟ أم هو الرأيُ والحربُ والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنـزل فانهضْ...» ونهض رسول الله بالجيش إلى الموضع الذي تخيَّره الحباب.

وفي حديث ابن هشام عن حفر الخندق حول المدينة يوم الأحزاب قال[5]: «يقال: إن سلمان الفارسيّ أشار به على رسول الله صلى الله عليه وسلم». فتقبَّل النبي صلى الله عليه وسلم نصحه، وحفر الخندق، فكان حفره عاملاً بارزاً من عوامل الهزيمة التي حاقت بقريش والأحزاب.

فإذا ارتقيت من الحُباب وسلمان إلى أبي بكر وعمر وعلي وجدت هؤلاء الأعلام يطوفون بالنبي صباحَ مساءَ، فيستشيرهم أو يشيرون عليه بأنصع الآراء. ولعلَّه كان يتعمّد استشارتهم ليعلّمهم التناصح والتشاور، ويصرفهم عن التفرّد بالرأي. جاء في الحديث[6]: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامَّتهم»، فأيُّ إطار يسع الشورى أوسعُ من هذا الإطار الذي رسمه النبيّ لنظام الحكم في عهده ومن بعده؟

وهذا النمط من الشورى لا يعني إلغاء المبدأ الذي قام عليه النظام السياسي النبوي، لأن الأسس والتشريعات إلهية المصدر، وصدورُها عن الله، يحظر على الشورى معارضتها أو إلغاءها أو إحلال شرائع بشرية محلّها. ومقابل هذا الترسيخ للثوابت نجد أفقاً واسعاً للاختيار، وأهمُّ ما في هذا الأفق أن النبيّ r لم يفرض على أمته نظاماً سياسياً يُلزمُ خلفاءَه اتّباعَه، ولم يورِّث الحكم أحداً من أقربائه أو أصفيائه، واكتفى بخطوط عريضة تُتيح للمسلمين أن يتحركوا بين أوجهها المحتملة وفق مبادئ عامة تضمن مصلحة الأمة وإقامة العدل، وتتيح للرعية محاسبة الرعاة إذا انحرفوا أو عسفوا.

وحسبُك دليلاً على أن الراشدين أدركوا أعمق الإدراك ما رمى إليه نبيُّهم أن تقرأ الخطبة التي خطبها أبو بكر رضي الله عنه بعد ما بايعه الصحابةُ لتجد أن الخليفة استوعب النظام المرجوّ، ولخَّصه بسطرين: في السطر الأوَّل قرّر مبدأ الشورى والمعارضة، فقال[7]: «أيُّها الناس، إني قد وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حقّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدِّدوني». وفي السطر الثاني قيّد الشورى والمعارضة بالشرعة الإلهية الثابتة لا بالرغاب البشرية المتقلّبة، فقال: «أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم».

بهذه الخطوط والألوان رُسمت صورة النظام السياسي النبوي والراشدي. فهل التزم الأمويون في حكمهم هذا النظام وما انطوى عليه من عدل وشورى؟ وهل أنفقوا مال الدولة في الوجوه التي ألزمهموها الشرع؟ وما الموقف الذي وقفوه من العصبية القبليّة؟ وكيف طبّقوا حدود الشرع؟ أطبقوها بسويّة الراشدين أم بما تقضي به مصلحة الحاكمين؟ ثم ما الأساليب التي اتبعوها في معاملة أعدائهم من الشيعة والزبيريين والموالي؟ أعاملوهم بالتي هي أحسن، أي بشعرة معاوية وحلمه، أم بالتي هي أسوأ، أي: بسوط الحجّاج وحزمه؟ في الإجابة عن هذه الأسئلة تتضح السمات العامة التي اتسم بها الحكم الأموي.

1- العزوف عن الشورى:

حَرَص معاوية منذ كان والياً على أن تكون له الكلمة العليا في حكم الشام. فلما انقلبت ولايته إلى خلافة تأصَّل فيه هذا الحرصُ لئلا تنقلب الشورى إلى فوضى، والفوضى إلى ثورة، فينهار الصرح الذي أقامه. ولعلّه اعتبر بمصرع عثمان وعليّ رضي الله عنهما ، ففسّر ما جرى لهما تفسيراً لا يخلو من صواب، وهو أنهما ما قُتِلا إلاّ لأنّ رحابة الصدور تفرّق الصفَّ، وتصدع الوحدة، حتى إن عليّاً نفسه اعترف بهذه الحقيقة الموجعة حين خطب جنده فقال: «أقوم فيكم بالرأي المصيب، فأستصرخكم معلناً، وأناديكم نداء المستغيث معرباً، فلا تسمعون لي قولاً، ولا تطيعون لي أمراً حتى تصير بي الأمور إلى عواقب المساءة». وأشقُّ ما يشقُّ على القائد أن تصبح الكثرة الرعناءُ صاحبةَ القول الفصل، فتحمل القائد على الإخفاق. قال عليٌّ كرم الله وجهه: «وقد كنت بالأمس أميراً، فأصبحت اليوم مأموراً، وكنت ناهياً، فأصبحت منهيّاً، فليس لي أن أحملكم على ما تكرهون». ولخّص الفساد الناجم عن فوضى الشورى[8] بجملة واحدة ذهبت مذهب المثل، وهي «لا رأي لمن لا يطاع».

اتعظَّ معاوية كما يُخيَّلُ إلينا بتجربة عليّ، ورأى أن الشورى يجب أن تُحصر في صفوة الصفوة من العقلاء، وأن يُقصى عنها الأعراب والدهماء، فعاد بالشام ثم بالدولة كلها إلى ما كان عليه الحكم أيام الغساسنة وفي دولة بيزنطة المجاورة أي: إلى حكم الفرد. وإن لم يكن بدٌّ من المشاورة والمؤامرة، فليشاور أهل الرأي وليؤامر ذوي الخبرة ممن لهم معرفة بالكتاب والسنة، وخبرة في الإدارةِ والحكم، وحظٌّ من الذكاء والدهاء كعمرو بن العاص، وزياد بن أبيه.

الصفحات