أنت هنا

قراءة كتاب رمادية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
رمادية

رمادية

كتاب " رمادية " ، تأليف غادة صديق رسول ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 3

الشوارع باتت مخيفة في هذه المدينة لفرط ما تغيّرت، لكن رأس الكور بقي وفياً، ربما ما زال بإمكانه التعرُّف إليّ، أنا التي طالما كلمته في صمت لأخبره أن لا يحزنه يأسنا وأنه سيبقى بعد أن أفنى وكل هؤلاء الذين يدبون على سطح إسفلته العتيق الآن. اقتربت من جامع النبي جرجيس فهذه مدينة الأنبياء وهي تعج ببقايا معجزاتهم وعظاتهم التي لم نعد نتعظ بها، ومساجد تحمل أسماءهم بنيت على ضرائحهم أو أماكن شهدت معجزاتهم. تمهلت في خطوي أبحث عن لقطة غير ملونة، لكن كل هؤلاء البشر المسرعين والجالسين في المقاهي، كانوا ينعمون بنعمة النسيان والألوان. هذا البدين الذي سيموت حتماً جراء تصلب الشرايين وعجز القلب، كان يضحك بطريقة عجيبة وكأن العالم مثالي، وكأن ما زال بإمكاننا أن نقابل فيه بطلاً من لحم ودم لا حكاية على ورق. كنت أريد أن أصرخ في الرجل البدين لأخبره، أني أملك عناوين كثيرة لخونة وجلادين ينعمون بالألوان والإغماء، وأني أتوق إلى عنوان بطل واحد لا أكثر. عاد الصوت ليصرخ في رأسي:

ـ ما شأنك والعالم، هل تستطيعين أن تصبحي بطلة يا رمادية؟

قلت للصوت ولنفسي إن هذه المدن لم تعد تصنع الأبطال. هي تترك البشر في نصف الدرب مدربين على الكلام والعمل لكنها تسرق أرواحهم، وأنا استيقظت روحي ذات غفلة، لا أدري ماذا أفعل هنا وأنا لا أشبه هنا ولا أشبهني حتى.

سرت حتى شارع النجفي جنة الكتب والمطبوعات. حين أضيّع نفسي لا أجدها إلّا هناك، أستطيع أن أقضي فيه نهاراً كاملاً دون أن أتعب أو أشعر بالملل. قررت القيام بجولة تفقدية على باعة الكتب القديمة فقد أعثر على كتاب لدور نشرنا التي تراكم عليها الغبار ولم تعد تترجم أو تنشر شيئاً، طالها التخريب الذي طال المثقفين في هذا الوطن الذي بنيت على ثراه أول مدرسة في العالم. كل الباعة يعرفونني لأني أشتري منهم بصورة منتظمة منذ أيام المراهقة، لا أساوم على كتاب، أشتري بالجملة وأقرأ بطريقة لا إرادية كما التنفس، لأهرب ولأنسى. ما حولي مخيف وبشع، وحده الكتاب يحتضنني كما تفعل أمي، وتربت علي صفحاته بحنان، لأرحل معه بعيداً حيث لا يطالني القبح والأذى.

قبل أن يعانق بصري الأغلفة الملونة التي انفرج قلبي لمرآها، لمحت من بعيد شخصاً شاء حظي التعيس أن يكون من معارفي، سار مزهواً مثل طاووس برفقة زوجته المبهرجة حتى اللعنة بأساورها العديدة التي تعلن عن غنى صاحبتها وتلمع تحت الشمس لدرجة تشوه منظر سوق الكتب. بنظرة واحدة، عرفت أن السنين لم تمر على قلبه بعجلاتها ربما لأن قلبه مخزون في مجمدة ما، لم أرَ أي أثر لقدم السن غير آثار صبغة سوداء تركت شعره مثل شعر ذكر ماعز أسود فاحم، قلت لنفسي إلى الوراء در يا جندّية السأم، لم يسعفني الوقت، فقد لمحني الدكتور وتقدم لتحيتي مثل أفعى تستعد لالتهام عصفور سمين.

الصفحات