كتاب " ضيوف ثقال الظل " ، تأليف جعفر العقيلي ، والذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب ضيوف ثقال الظل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ضيوف ثقال الظل
المهمُّ أنني الآن في مواجهةِ رأسي. بدت فكرةً فانتازية كلّما أمعنتُ فيها قادتني إلى ضفاف الجنون. رأسي معروضةً للبيع في حانوتٍ قديم. رأسي التي أستطيعُ تمييزها من بين ملايين الرّؤوس، تنتظرُ من يشتريها. يا لها من «مسْخَرَة».
تذكّرتُ المرآةَ التي كم تمنّيتُ أن أنسحبَ من محيطها تاركاً صُورتي فيها. كم حاولتُ أنْ أمضي بينما رأسي محاصَرةٌ بإطارها البلاستيكي، ولكن!
عندما لاحَ لي هذا الخاطرُ بدوتُ أكثرَ تقبُّلاً لِمَا يدور حولي؛ فما الفرقُ بين أن أتركَ رأسي في المرآة، وبين أنْ تُزيِّنَ واجهةَ حانوتٍ قديمٍ يكتظّ بالتُّحَف. هكذا قُلتُ لي مقرّراً مواصلةَ مشواري الذي خرجتُ لأجلهِ. لكنّني تراجعتُ.. تفرَّستُ في رأسي مرّة أُخرى؛ كانت تكتسي ملامحَ صامتة؛ الفمُ يتّخذُ خطّاً مستقيماً بانحناءةٍ بسيطةٍ عند طرفَيه، والعينان تُحملقان فِيَّ بحياديّة كأنّني لستُ بصاحبِهما.
إذن، كيف وصلتُ إلى هنا دون رأس؟ من غير المعقول أن يحدثَ هذا. كان صباحاً طبيعياً، ألقيتُ فيه التّحيّةَ على «أبو العبد» و«سعيد» والآخرين في الحارة، وكلُّهم ردُّوا بأحسنَ منها. لو كنتُ مبتورَ الرأس هل كانوا سيفعلون؟ من المستحيل أنْ أحادِثَهُم بلا لسان. وقد رأيتهم بأمِّ عيني، فهل كنتُ حقّاً بلا عينين؟
لِمَ لا أتأكّد من ذلك! رفعتُ يدي إلى رأسي فوق عنقي أتلمّسُها، فَتنفّستُ الصّعداء حين وجدتُها تتربّع على عرشِ عنقي.
***
لكنّني أقفُ أمام رأسي، وأجزمُ إنْ كان ثمّة رأسٌ تشبهها إلى هذا الحدّ؛ المطابَقة. كما أنها من لحمٍ ودم، فالتَّغضُّناتُ التي ترسمُ ملامحَها حقيقيّةٌ، ورغم ما يتبدّى من جمودٍ فيها، فإنّ الرموشَ تتحرّك جيئةً وذهاباً كما لو كانت حيّةً.
راعَني أنّ ثمة رأسيَن: واحدة فوق عنقي، بينما ترتكز الأُخرى فوق قاعدةٍ مخمليّةٍ يُضفي عليها اللونُ الخمريُّ هالةً من قداسة.
«أيُّ مُصيبةٍ تلك التي أنا فيها؟»، ثم استدركتُ كمن فطنَ إلى حلٍّ سحري: «لِمَ لا أقطع الأمرَ من دابرهِ، وأستفسرُ عن تلك التي في الحانوت؟».
لا أعرف لِمَ استعدتُ مشهدَ مرآتي تتشظّى حين رشقتُها ظُهرَ أمس بالصّابونة لأنها لم تَرُقْ لي إذ رمقتُها من بعيد! ولتقاعسي عن شراءِ مرآةٍ جديدة، لم أمارسْ هوايتي مع قريني هذا الصّباح. حتّى إنني غسلتُ وجهي وحلَقتُ لحيتي اعتماداً على ذاكرتي، فثباتُ شكلي منذ سنين لا يُنبئ أنّ ملامحي ستتغيّر فجأة!
***
تمنّيتُ تحطيمَ الزّجاج الذي يفصلني عن رأسي مثلما فعلتُ أمس بالمرآة، غير أنّي ما لبثتُ أن اسْتسخَفتُ الفكرة، وقرّرتُ أن أدخلَ الحانوتَ كأيّ زبونٍ، وأسألَ عن ثمنها، فرُبَّما أشتريها، ورُبَّما حين ألمسُهَا، تألَفُني، أو تتذكّرني، فأسترِدُّني دون عناء!
لكنّني سرعان ما انتابتني خيبةٌ عندما انعطفتُ نحو البابِ في الطَّرف الآخَر فوجدْتُهُ مُغلَقاً. استطلعتُ المكانَ بحثاً عن أحدٍ، فما كانَ غير السّكون يلفُّ أرجاءه. ثم الْتَفتُّ إلى رَجلٍ يقف أمام بقالةٍ يفصلها عن الحانوت أمتارٌ قليلة، بدا من نظراته المُصوَّبة تجاهي كأنّه يتتبَّعُني. حيَّيْتُهُ، فتلعثمَ وارتبكَ، فارتبكتُ مثلهُ، وقبل أنْ أتفوَّهَ بحرفٍ بادرني بنبرةٍ متحسِّرةٍ وهو يدير ظهرَه ويمضي بعيداً: «مسكين.. عاشَ غريباً، وماتَ غريباً، لمْ يترك وريثاً ليفتحَ أبوابَ المحلّ بعده.. دُنيا!».
صَعقتْني كلماتُهُ، وأصابتني بالكآبة. وبعد طولِ وجومٍ، اشتريتُ مرآةً دائريةً صغيرةً من دكان مجاوِرة، ووضعْتُها في جيب سترتي. وحين انزويتُ عن الأنظار قليلاً، أخرجتُها، وبحثتُ عنّي فيها، بحثتُ جيّداً، فلمْ أجدْني. لم أجدْ رأسي. مدَدتُ يدي مرّة أخرى أتحسّسُ تضاريسَها، فأدهشني استقرارُها فوقَ عنقي.
هرولتُ إلى بيتي أتأرجحُ كَبُندول، ودوارٌ عنيفٌ يبعثرُني على الطُّرقات، ويحيلُني إلى كتلةٍ من فوضى. عند مدخل الحارة، ألقيتُ التّحيةَ على «أبو العبد» و«سعيد» والآخرين، فردُّوا بأحسن منها..
كلُّهم عرَفُوني، إلاّ أنا.. يا للحسرة، لَمْ أعُد أعرفُني!