كتاب "طيور الرغبة" ، تأليف محمد الحجيري ، والذي صدر عن منشورات الضفاف للنشر والتوزيع ، ومما جا
أنت هنا
قراءة كتاب طيور الرغبة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
1
كل شيء محض استعارة
غوته
كنت الصبـي الوحيد لأمي
الحياة سلسلة انكسارات فحسب...
مرّت أسابيع على إصابة أبـي بالألزهايمر، وأصبحت عرضة لتوتر الأعصاب أكثر مما كنت في السابق. التوتر يمزق أفكاري، أشرد لساعات خلال جلوسي بمفردي، أضع يدي على خدي وأذهب في تأمل بعيد. كنت أحتاج إلى مقاطع قليلة لأنهي روايتي الأولى حين سمعت أزيز الرصاص ودويّ القذائف في منطقة الحمرا - رأس بيروت في ذلك اليوم من أيار 2008. رصاصات قليلة كانت كافية لأنسف الرواية التي بدأت بكتابتها منذ سنوات. إن اللحظات اللاواقعية التي تشكلت من الحرب ومن تخلخل ذاكرة أبـي، قلبت الأمور رأساً على عقب، وما كتبته أصبح مثل جثة متحلّلة كحياتي نفسها. صرت أمام سلسلة انكسارات واحتلالات لا أقدر على تخطيها أو هزيمتها. الرواية ليست جثة لكن الكلمات والعبارات تتحلّل، والمعاني تقتل بالحبر أيضاً. اكتشفت في لحظة أن ما أكتبه غير قابل للحياة، وأن الحرب أطلقت رصاصة الرحمة على نصّي الطويل الذي بقيت لسنوات أدوّنه وانتظر بشغف أن يرى النور. قلت ماذا تعني الذكريات حين يصاب أبـي بالألزهايمر، هل تبقى للأشياء معانيها؟! ماتت الرواية في ذلك اليوم، ربما لأن الحرب قادرة على تغيير المزاج وقتل الأفكار. جلست طوال ليلة الحرب في منـزلي الصغير، قبالة التلفزيون الصغير، لم أكن أسمع الأخبار، كنت أشاهد الكليبات المصورة وأسمع أزيز الرصاص، أتخيّل المسلحين يخلعون باب شقتي في لحظة، ربما يضعون كيس الخيش في رأسي ويلجأون إلى تعذيبـي والتنكيل بـي، أو يثقبون جسمي بالرصاص ويلقون بجثتي قرب مستوعب سوكلين. الأجساد المهشمة في الحرب تتشابه في التشوّهات، هذا هو صوت المنطق. ماتت روايتي قبل أن تولد، وأنا أفكر في قول خورخي لويس بورخيس إن مشكلة الكتّاب الشباب أنهم يفكرون وهم يكتبون في النجاح والفشل، في حين لم يفكر بورخيس في بداياته إلا بالكتابة لنفسه: "في البداية كنت أكتب لنفسي ولكن منذ أن تحولت الكتابة مهنة أصبت بمائة وسواس".
من المجحف أن يبقى المرء يكتب رواية على مدى أشهر أو سنوات، مهلوساً بنهايات أبطالها المتخيّلة، يسردها حرفاً حرفاً وجملة جملة، لكنه في الوقت نفسه يشعر أنه يعيش رواية طويلة في ليلة واحدة. فهل من الضروري أن نكتب رواية؟! أو أن تصبح نوازع الحياة منسوخة على الورق؟! هل من الضروري أن تصبح الرواية مثل احتلال في الحياة؟! كان اطلاق الرصاص قد بدأ يقترب من شارع الحمرا حين حذفت نص الرواية من على شاشة الكومبيوتر، قلت إن روايةً لم تعجبني لن يكون لها حظ في الحياة. تركت ذاكرتي تروي لنفسها من دون عناء السرد الروائي ومشقّته، بل تركت الأحداث تروي نفسها، لم يكن أزيز الرصاص في ليل بيروت يحتاج إلى كتابة ليكون تعبيراً عن مأزق الوجود والحياة معا، ولم تكن إصابة أبـي بالألزهايمر تحتاج إلى كتابة ليظهر معناها على الملأ. فأبـي الذي كابد الشقاء العاري والعادي ثمانين عاماً، كتب ذاكرته بالنسيان والممحاة. وهو قبل أن يصاب بالألزهايمر صدمته سيارة على رصيف بولفار شمعون في سقي الحدث، صدمة كانت كافية لتخلخل دماغه وتصيب جسمه بالرضوض المختلفة وتهشمه كأنه أصيب في الحرب أيضاً. على مدى سنوات كنت أشعر بالإثم لأني لا أهتم بأبـي، وزاد جفائي له أني سكنت بمفردي وانغمست في ملذات الويسكي في حانة كافكا. لم أعد أزوره إلا نادراً. كأني كنت أحاول التجرد من أقرب المقربين إليّ، أعيش وهم الفردية والانشقاق عن الهالة الأسرية ورمزية العائلة، ودفعني هذا الوهم التمردي لأن أكتب: "لن أقتل أبـي لأنه غير موجود".
لم أتوقع أن الحرب ستصل إلى شارع الحمرا. كنا تناقشنا كثيراً في حانة كافكا واستنتجنا أن الحرب لن تقع من جديد، وحده رضوان الأشقر يقول لنا، نحن الجالسين، في الحانة: "يا أغبيا ما دام السلاح في البيوت والمستودعات فهذا يعني أننا في حالة حرب". برغم الويسكي الحنون، بقي رضوان متشائماً من أبسط الأمور في لبنان. يجد في كل شاب يزور الحانة مشروع حرب أهلية، وأن الشبّان يرضعون العنف من حليب أمهاتهم، ومشروعهم الوحيد كيف يحضّرون للحرب. يقاوم رضوان الفراغ من خلال احتساء الويسكي والتواصل مع المومسات العابرات. لم يكن يحمل سيجارة، منذ أصيب بأزمة قلبية، بدأ يخاف على صحته وتوقف عن التدخين ولكنه بقي مواظباً على تناول ويسكي من نوع "ريدليبل"، ولم يجد عملاً منذ صُرف من الجريدة التي عمل فيها. لا يجد ملاذه إلا في النوم والسهر. حين توفي الفنان جوزف صقر، شعر رضوان بنقزة مع مجموعة الشبان الذين كانوا يجتمعون في حانة كافكا. لا أعرف إن كان رضوان زار حانة كافكا في ليلة السابع من أيار 2008. فالرصاص، في تلك الليلة، مزق الليل في نواحي العاصمة. القطة المرقطة دخلت غرفة مطبخي للمرة الأولى. حاولت تناول ما تبقى من علبة التونا. القطة تلحس علبة التونا كأنها تلحس الدماغ. لم أنهرها لتخرج من المطبخ، لا أجيد الكلام معها. لحظات من الحرب، شعرت أن أربعاً وعشرين ساعة في البيت تساوي دهراً، لا شيء أفعله سوى اللجوء إلى السرير أو الكتب المكدسة في الزوايا.