كتاب "طيور الرغبة" ، تأليف محمد الحجيري ، والذي صدر عن منشورات الضفاف للنشر والتوزيع ، ومما جا
أنت هنا
قراءة كتاب طيور الرغبة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ماذا يفعل المرء في الحرب؟ هل يحرق أصابعه بأعقاب السجائر أم يفكر في جمع مظاريف الرصاصات الفارغة؟ منطقة الحمرا أصبحت في ليلة حرب واحدة كوجه إنسان تلقى لكمة على عينيه. أضاع الشارع بوصلته. رائحة الحشيش تنسرب من غرفة الناطور إلى شقتي في الطابق الأول، هدير المكيف القديم يضرب الرأس أيضاً.
مدرعات الجيش تقطع الطرق المؤدية إلى قصر قريطم، بعض المواطنين ينتظر أن تفتح الدكاكين أبوابها وعلى وجوههم علامات الذعر، أحد حراس القصر يهمس في أذن بائع القطع الإلكترونية قبل أن يغادر مكان عمله، لا حراس في الشوارع المؤدية إلى القصر. كنت أجهل ما يحصل في الشوارع القريبة من بيتي، قلق خفيف يسيطر عليّ. في يوم واحد ازدادت الشعارات الحزبية على الجدران، كأن الاحزاب أول ما تنتقم منه هو الجدران العارية إذ تروح تطلي رموزها بطريقة وحشية من خلال "الستنسل" و"الغرافيتي". الموت شبح يطل من فوهات البنادق، الرجل العجوز مزق صور السياسي الذي يحبه عن واجهة دكانه، جلس يبكي على رومنطيقية الرصيف الزائلة، بقي باب دكانه نصف مقفل، شعر بالتيه بعد ليل الرصاص الطويل.
غلاة البنادق "أبدعوا" في صناعة الخوف، كانوا يدكّون الليل بالقذائف والرصاص كأنهم يشاهدون عانة فرج للمرة الأولى في حياتهم. أشعلوا سجائرهم من لهيب الطوائف، صفعوا شوارع المدينة بالرصاص والبارود. في الصباح، توزعوا عند زوايا المباني، يحملون عتادهم الحربـي. أمي كانت قلقة أيضاً، تتصل تنبهني من النـزول إلى الشارع، أسألها عن أحوال أبـي، تقول "الله يساعد، يا حسرتي على بني آدم"، وتحذرني من النـزول إلى الشارع أيضاً. منذ أصيب أبـي بالألزهايمر فقد بيت أهلي الرواق والهدوء، وانشغلت أمي وأختي الكبرى بتداعيات أزمة لم تكن في الحسبان. أبـي يمضي وقته بين المسجد والساحة والدكاكين، لا أحد يعرف ماذا يريد، ومنذ بدأ يهتم بالجنازات والمآتم، أصيبت ذاكرته بالخلل. بدا الضجر والقلق من علاماته اليومية. كل شيء يزعجه، وأحياناً يشعر بالرضى من كلمة، لكن الموت كشبح فوق أيامه.
ابن ستالين
لم أحلق لحيتي، لم أحدق إلى المرآة، لم أغسل وجهي، لم أرتب السرير. مشيت بحذر حتى شارع بلس المحاذي للجامعة الأميركية. مجموعة من عناصر حزبيّة تسير في دورية راجلة تحمل بنادق قناصة... ماذا يفعلون هنا، من أين أتوا؟! هل خرجوا من تحت الأرض وعلى وجوههم وحل وأغصان أشجار؟! نراهم ولا نرى وجوههم، هل أتوا من الغابات البعيدة؟ بعض عناصر مخفر حبيش قرب سناك فيصل، الضابط يأمرهم بالدخول إلى مركزهم. ماذا يجري؟ لا أعرف!! كأني في خروجي من البيت، أتحدى الحرب وأكتب، أو كأني أعيش في العالم السفلي. الكتابة ليست صلاة كما يقول كافكا، الكتابة إلحاد وشكل من أشكال التعذيب. الكتابة جعلتني في العالم السفلي برغم أني أعيش في المدينة وبين الناس وفي المقاهي. الكتابة سرقتني من حيث لا أدري، والكتب غيّرت حياتي من حيث لا أدري أيضاً!! تتصل أمي من جديد مولولة: "انتبه يا ابني، يا رضا قلبـي عليك انتبه من المشاكل، واذا فيك تعا على الضيعة"...
تصل تاكسي من نوع مرسيدس "لف" خضراء اللون... يتأملني السائق كأنه يسألني: "لوين؟"
- "أشرفية، ساسين، عشرة آلاف".
يشير إليّ بالصعود، أجلس على المقعد الأمامي، على التابلوه صورة لحسن نصرالله. السائق يسمع إذاعة حزبية، طلبت منه أن يخفف صوت الراديو قليلاً، بدت على وجهه علامات الامتعاض، قال: "بدنا نعرف شو في بالدني"، أقول في قرارة نفسي: "أخت التاكسيات واللي بيطلع فيها، متى أشتري سيارتي الخاصة"... لأتفادى الصدام مع السائق بدأت أقرأ رواية "خفة الكائن المحالة الاحتمال" لميلان كونديرا، وصادفت قراءتي مقطعاً عن براز ابن جوزف ستالين يقول"لم يتسن لنا أن نعرف الظروف التي مات فيها ابن ستالين إلا من خلال مقال نشرته مجلة "الصانداي تايمز" عام 1980. فبعد أن أسره الألمان خلال الحرب العالمية، أدخل في معسكر الاعتقال نفسه مع ضباط إنكليز أسرى. كانت مراحيضهم مشتركة في المعسكر وكان ابن ستالين يتركها دائما متّسخة. والإنكليز، لم يكونوا يحبون رؤية مراحيضهم ملطخة بالبراز، حتى ولو كان ذلك البراز يخص ابن الرجل الأكثر نفوذاً في العالم آنذاك. كانوا يلومونه على ذلك فاستاء منهم. ثم عاودوا تأنيبه وأجبروه على تنظيف المراحيض. فغضب ثم تخاصم وتعارك وإياهم، وطلب في النهاية مقابلة آمر المعسكر. كان يريده أن يحكم في نـزاعهم ولكن الألماني كان أكثر اعتزازاً بنفسه من أن يتجادل بخصوص البراز. فأطلق ابن ستالين شتائم روسية شنيعة ثم انقض باتجاه الأسلاك الشائكة المحيطة بالمعسكر والمزودة بتيار من التوتر العالي. ترك نفسه يتهاوى فوق الأسلاك. وجسده الذي لن يلوث المراحيض البريطانية بعد الآن، وبقى معلقاً هناك.
لم تكن حياة ابن ستالين سهلة. فلقد أنجبه والده من امرأة كان كل شيء يؤكد بأنه سيقتلها يوماً. كان ستالين الابن إذاً ابناً للإله وملعوناً في الوقت نفسه من الإله. كان الناس يهابونه لسببين: الأول، لأنه كان بإمكانه أن يؤذيهم بسلطته (فهو على كل حال ابن ستالين) وبصداقته (لأن الأب كان يمكنه معاقبة الصديق بدلاً من الابن المنبوذ).
ابن ستالين قضى في البراز. ولكن الموت في سبيل البراز ليس موتاً مجرداً من المعنى. فالألمان الذين ضحوا بحياتهم من أجل توسيع إمبراطوريتهم أكثر فأكثر باتجاه الشرق، والروس الذين ماتوا لكي تمتد سلطة بلادهم صوب الغرب. أجل، كل هؤلاء ماتوا من أجل بلاهة، وموتهم مجرد من أي معنى ومن أي مغزى عام. أما موت ابن ستالين فكان بالمقابل، الموت الفيزيقي الوحيد وسط البلاهة العالمية للحرب".
في مخليتي مليون فكرة حول موت اللبنانيين والعرب في سبيل البراز والبلاهة. كل حرب هي في سبيل البراز والبلاهة. لا أعتقد أن السائق يدرك ذلك، بدا منـزعجاً مني لأني أحاول القراءة، كأنه يريد الكلام معي بالقوة، يريد أن يقول شيئاً ولا أنتبه له. يئس من محاولته في فتح حديث عمّا جرى ويجري في ليلة الحرب الطويلة.
لا أحد على الكورنيش البحريّ، كأن المواطنين هربوا من الشمس والبلاهة و"اليوم المجيد". في عين المريسة مجموعة من المسلحين يتنافسون في القنص لإسقاط صورة كبيرة لسياسيّ معلقة على مبنى قديم قرب ميناء الصيادين... هل نحن في حرب الصور؟! رصاص يثير الهلع في وضح النهار، الجيش أين هو؟! لا أعرف! القوى الأمنية اختفت من الشارع، السائق يمشي بسرعة، يريد أن يصل بسرعة إلى حيث طلبت منه ويتحدث بسرعة، يتجه من "الصيفي فيلدج" نحو شارع التباريس، كأنه ينتقل من بلد إلى آخر. البلد ما زال في حالة انقسام سيكولوجي وسوسيولوجي. إنه بلد البلاهة.
معظم الطرقات مقطوعة بالسواتر الترابية والحجارة ومستوعبات النفايات، أتت شاحنات ضخمة قلبت حمولتها في وسط الطريق، أقفلته ولا أحد يجرؤ على فتحه. بعض المسلحين ينفث دخان النراجيل على جسر الرينغ، الدخان يتصاعد كغصن شجرة، المسلحون ينتظرون فعل شيء، يراقبون القاصي والداني. كأن الحرب بالنسبة لهم "بك نك على خطوط التماس". لماذا يحبّون الحرب، لماذا يطلقون الرصاص، لماذا يقاتلون، ومن أجل ماذا؟! لا أعرف!! مرّت الحرب الطويلة كلها ولم نعرف. وقتل مئة وخمسون ألف شخص، لا نعرف من أجل ماذا!؟ هناك سبعة عشر ألف مخطوف ومفقود لم نعرف أين هم؟! مبنى سينما سيتي الباقي من زمن الحرب في وسط بيروت يروي الحكاية، حكاية الحرب التي لم تنته بعد، مبنى الهوليداي آن أيضاً يروي الحكايات، مبنى بركات الأصفر في السوديكو مات صاحبه وبقي يروي. ستموت هذه المباني وتبقى تروي.
هل نتذكر البراز في المباني المهجورة؟