أنت هنا

قراءة كتاب كراهية الديموقراطية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
كراهية الديموقراطية

كراهية الديموقراطية

كتاب " كراهية الديموقراطية " ، تأليف جاك رانسيير ، ترجمة أحمد حسان ، والذي صدر عن دار التنوير للنشر والتوزيع

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 8

هذا هو المذهب الذي يكرِّمهُ كتابُ فوريه. فقد أظهر أن الإرهابَ الثوري يتماهى مع الثورة ذاتها، لأنّ كلّ التتابع الدراميّ الثوري كان قائمًا على أساس الجهل بالحقائق التاريخية العميقة التي جعلتها ممكنةً. فقد كانت تجهل أنّ الثورةَ الحقيقية، ثورةَ المؤسسات والعادات، كانت قد أُنجِزت فعلًا في أعماق المجتمع وفي دواليب الآلة المَلَكية. ومن ثمّ، ما كان للثورة إلّا أن تكون وهمَ البدءِ من جديد، على طريقة الإرادة الواعية، ثورةً متحقّقة فعلًا. لم يكن باستطاعتها أن تصبح سوى اصطناعٍ للإرهاب، تجهدُ لتمنح جسدًا متخيّلًا لمجتمعٍ متفسِّخ. استند تحليل فوريه على أطروحات كلود لوفور(ث) حول الديموقراطية باعتبارها سلطةً غير مُتجسدةٍ(6). لكنّه ارتكز بدرجةٍ أكبر على العمل الذي زوَّده بموادّ تعليله، أعني أطروحة أوجوستان كوشان(ج) التي تشجب دور «جمعيات الفكر» في أصل الثورة الفرنسيّة(7). وقد شدَّد فوريه على أنّ أوجوستان كوشان لم يكن مجرد مَلَكي مؤيد للآكسيون فرانسيز(ح)، بل كان كذلك روحًا تغذّت على العلم الاجتماعي الدوركهايمي. لقد كان، بالفعل، الوريثَ الأمثل لهذا النقد للثورة «الفردية النزعة»، الذي نقلته الثورةُ المضادّة إلى الفكر «الليبرالي» وإلى السوسيولوجيا الجمهورية، التي هي الأساسُ الحقيقي لأوجهِ شجبِ «الشمولية» الثورية. النزعة الليبرالية التي حدَّدت معالمها الانتليچنسيا الفرنسية منذ ثمانينات القرن العشرين هي مذهبٌ مزدوج القاع. فخلف تبجيل التنوير والتقاليد الأنجلو ـ أمريكية للديموقراطية الليبرالية وحقوق الفرد، يمكن أن نتبيّن الشجبَ الفرنسي جدًّا للثورة الفرديةِ النزعة التي تمزِّق الجسد الاجتماعي.

يتيح هذا المجالُ المزدوج لنقد الثورة فهمَ تشكُّل النزعةِ المعاصرة المعادية للديموقراطية. يتيح فهمَ قلبِ الخطابِ حول الديموقراطية في أعقاب انهيار الإمبراطورية السوفيتية. فمن جهة، كان سقوط هذه الإمبراطورية، لوقتٍ بالغ القِصر، مُرحّبًا به باعتباره انتصارَ الديموقراطيةِ على الشمولية، انتصارَ الحريات الفردية على القمع الدولتي، وترمز له حقوقُ الإنسان تلك التي تمّت نسبةُ المنشقين السوفيتيين أو العُمّالِ البولنديين لها. كانت تلك الحقوقُ «الشكليّة» الهدفَ الأولَ للنقد الماركسي، وبدا أن انهيارَ الأنظمةِ المبنيّة على التظاهر بتشجيع «ديموقراطيةٍ حقيقية» يُشير إلى انتقام تلك الحقوق. لكن خلف الترحيب الإجباري بحقوق الإنسان المنتصرة وبالديموقراطية المُستعادة، كان ما يتم إنتاجُه هو العكس. فمنذ أصبح مفهوم الشمولية عديم الفائدة، سقط التعارضُ بين ديموقراطيةٍ جيدة لحقوق الإنسان والحريات الفردية مقابل الديموقراطيةِ السيئة المساواتية والجماعية النزعة، بدوره، في ثنايا الإهمال. وسرعان ما استعاد نقدُ حقوقِ الإنسان كلَّ حقوقه. أمكنه أن يتدهور على طريقة حنا أرندت: حقوقُ الإنسان هي وهمٌ؛ لأنها حقوق ذلك الإنسانِ العاري الذي بلا حقوق. إنها الحقوقُ الوهميّة لأُناس طردتهم أنظمةٌ استبداديةٌ من بيوتهم، ومن بلادهم، ومن كلّ مواطنة. والحظوة التي استعادها هذا التحليل مؤخّرًا أمرٌ معروف. فقد جاء في أوانه، من جهةٍ، ليدعم الحملات الإنسانية والتحريرية للدول منتهجًا، لحساب الديموقراطية المناضلة والعسكرية، نهجَ الدفاع عن حقوقِ مَن ليس لهم حقوقٌ. ومن جهة أخرى، أَلهَمَ تحليلَ چورچيو أجامبين، الذي يجعلُ من «حالة الاستثناء» المحتوى الحقيقي لديموقراطيتنا(8). لكن أمكن كذلك للنقد أن ينحطّ على طريقة تلك الماركسية التي جعلها سقوطُ الإمبراطورية السوفيتية وضعفُ حركات الانعتاق في الغرب في متناول كلّ استخدام، حقوقُ الإنسان هي حقوق الأفراد الأنانيّين للمجتمع البورجوازي.

يتلخّص الأمر كلّه في معرفة مَن هم أولئك الأفراد الأنانيّون. فهِم ماركس من ذلك أنهم حائزو وسائل الإنتاج، أي الطبقةُ السائدة التي تعدُّ دولةُ حقوق الإنسان، بالنسبة له، أداتَها. أمّا الحكمةُ المعاصرة فتفهم الأمورَ بشكل مختلف. وبالفعل، تكفي سلسلةٌ من الانزلاقات المتناهية الصغر ليكتسب الأفرادُ الأنانيّون وجهًا آخر تمامًا. فلنستبدل أولًا، وهو ما سيلقى الترحاب، «الأفرادَ الأنانيّين» بـ«المستهلكين الشرهين». ولنماهي بين هؤلاء المستهلكين الشرهين وبين نوعٍ اجتماعيّ تاريخيّ، هو «الإنسان الديموقراطيّ». ولنتذكّر أخيرًا أن الديموقراطية هي نظامُ المساواة وسوف يمكننا أن نستنتج أن الأفرادَ الأنانيّين هم الناسُ الديموقراطيون. وأن تعميمَ العَلاقات التجارية، التي شعارها حقوقُ الإنسان، ليست سوى تحقّق المطلب الجيّاش للمساواة الذي يثيرُ الأفرادَ الديموقراطيين ويُدمِّر السعيَ إلى الصالح العامّ المتجسِّد في الدولة.

لنُنصت، مثلًا، إلى موسيقى تلك العبارات التي تصف لنا الحالةَ الحزينة التي تضعنا فيها سيادةُ ما تسمّيه المؤلفة، دومينيك شناپر، ديموقراطية العناية الإلهية: «العَلاقات بين المريض والطبيب، بين المحامي وزبونه، بين القسيس والمؤمن، بين المعلم والطالب، بين العامل ومن ينال المساعدة، تتطابق باضطرادٍ مع نموذج العَلاقات التعاقدية بين أفرادٍ متساوين، حسب نموذج العَلاقات المساواتية من الناحية الأساسية، التي تقوم بين مُقدِّم خدمةٍ وبين زبونه. يفرغ صبرُ الإنسان الديموقراطي إزاء كلّ منافسةٍ، بما في ذلك منافسةِ الطبيب أو المحامي، التي تطرحُ للتساؤل سيادَته الخاصة. تفقدُ العَلاقاتُ التي يعقدها مع الآخرين أفقَها السياسي أو الميتافيزيقي. تميلُ كلّ الممارسات المهنية إلى الابتذال. [...] يصبح الطبيبُ باضطرادٍ أجيرًا لدى الضمان الاجتماعي؛ والقسيسُ أخصائيًّا اجتماعيًّا وموزِّعًا لبركات الكنيسة [...] ويضعفُ بعدُ المُقدَّس بعدُ الإيمان الديني، بعدُ الحياة والموت، بعدُ القيم الإنسانية أو السياسية. والمهن التي كانت تؤسِّس شكلًا، ولو غير مباشر أو متواضعٍ، من القيم الجماعية، تتأثر بنضوب التسامي الجمعي، سواءٌ كان دينيًّا أم سياسيًّا»(9)(خ).

الصفحات