أنت هنا

قراءة كتاب إمرأة الرسالة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
إمرأة الرسالة

إمرأة الرسالة

كتاب " إمرأة الرسالة " ، من تأليف رجاء بكرية ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، نقرأ من المقدمة :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 6

هواجس

-1-

همست لنفسها، وهي تقبض على مضمون الرّسالة الغريبة، وتجري بها باتّجاه الحافلة.. هل يحتاج إلقاء رسالة في صندوقه كل هذه المسافات البعيدة خلف سائق حافلة مرهق؟ قطعتُ المدينة طولا وعرضا، وأنا أفتّش عن بريد ملائم أرسل منه أوراقي. لا، لم أكتف بابتسامات عاملات البريد في حيّي الجميل، ولم يعجبني وسط المدينة ولا المدينة التحتية. ونفيت نفيا قاطعا أن يكون لمركز البريد المتواضع قرب قهوتي المفضلة نصيب في مقاسمة ساعي البريد المركزي فرحة حمل مغلفي المستطيل داخل كيس الإرساليات الخاصة.

للمرّة الأولى أحسست أنني أحتفل بقدومي إلى رجل ببذلة غير مستعملة. ولا أعرف لماذا اعتقدت أنّ البريد المركزي سيقيم حفلا كبيرا بشموع ومشاعل مستقبلا، هذا المغلف الخمري الّذي يصر أن يكون خاصا جدا. ربّما أنا الّتي أوعزت لعاملة البريد بأهميته وربّما نوعيّة ورقه الفاخر. على العموم مضت ساعتان على أقلّ تقدير وأنا أرفض هذا البريد وأفكّر في ذاك، حتّى لمعت في وجهي ابتسامة عاملة البريد الرومانسي في الجامعة، ودون تفكير هذه المرّة غيّرتُ وجهة سيري وركبت الحافلة ربّما للمرة العاشرة وسافرت إلى الجامعة. ظلّت الحافلة تلمّ الناس من كلّ مكان وتفرغهم في كلّ مكان أيضا، وأنا جالسة في المقعد الأخير أراقب بصبر ما يحدث لركاب السائق الّذي يطمئن على وجودي في مرآته كلّما دخل راكب أو خرج منها.

حين وصل إلى محطته الأخيرة أعلى جبال المدينة لمحني في مرآته ثانية أقبض على مغلفي الأنيق داخل كيس نايلون أبيض؛ لئلا يسيل الحبر الّذي سجّلت بأسوده العنوان. تنفسنا أنا وهو الصعداء. ابتسم كأنّما أحالنا مشوارنا الطويل في أنفاق المدينة إلى أصدقاء قدامى، وصاح من بعيد: "هذا كلّ شيء" ابتسمتُ له أنا أيضا، وقلت: "لا يوجد أفضل من ذلك". لعنت السيارة الّتي تحرن في كلّ مرّة تعرف أنني ماضية إلى البريد أو المحكمة، لا بدّ أنّ لونها الترابي يجعلها نكدية لهذا الحد، وقررت في سرّي أن أستبدلها عند أول فرصة سانحة.

نزلتُ بخطوات سريعة كي ألحق طرود الإرساليات الخاصّة الّتي تغلق عند الثانية عشرة بالضبط. كانت عاملة البريد ترتاح في مكتبها المكيف ويبدو أنها تنتظرني، ابتسمت حين لمحتني أجذب يد الباب الكبير مثل كلّ مرّة بالاتجاه المعاكس، فأصدرت حركة من يدها مشيرة إلى الاتّجاه الصحيح. لم أشكرها كالمرّة السابقة بل خجلت قليلا وأنا أحصي المرات السبعمائة الّتي قبضت يدي على سكّرة الباب بالمقلوب، وبقيت بعد كلّ زيارة عنوانا لمغامرة.

همست بشيء من الضّيق.. ولا بدّ أنّها تتندر بضيق بصيرتي أمام عماّل النظافة، وأضَفْت: "لو أنّ هذه المرأة الفرنسية صاحبة الشعر الكستنائي القصير عرفت أنني منذ السادسة والنصف صباحا ألفّ مراكز البريد بحافلات مرهَقَة، أجهزة التّبريد في معظمها معطّلة لما اكتفت بابتسامة عذبة، بل ربّما جرت إلي وأجلستني فوق المقعد الشاغر إلى جانبها، وقدّمت لي قهوتها المائعة"

لم أفهم لماذا يزهد اليهود لهذا الحد بملاعق القهوة. ولماذا لا يسمحون بأكثر من ملعقة صغيرة لفنجان واسع كالّذي قدمتَه لي حين أتيتُ لزيارتك.

وقفت أمامها مثل كلّ مرّة بابتسامة عريضة، وهمست ككل مرّة تلاحظ مغلّفاتي الطويلة، "مستعجل جدا". ملأت الاستمارة البيضاء الّتي دفَعَتْها إليّ رغم أنّها اعتادت أن تملأها بنفسها. نقّطْتُها بالحروف الأولى من اسمك، ثم كتبتُ بخط بارز اسم شارعك الحرّ اسم المدينة، ووثّقَتُ بقلمها الساعة والثانية. هل تَرى كم كنتَ مهما بالنسبة لمركز بريد حالم فوق أعلى جبال المدينة؟ على خلفية المغلف لم أسجل غير رقم بريدي ومدينتي حتّى إذا اختلطتْ على ساعي البريد الأمور وضاع بين الشوارع الحرّة الكثيرة، عاد إليّ. همستُ، وأنا أتميّز من شدّة الاستغراب، صحيح اختلطتْ على سكان المدينة مترادفات اللغة، وأصبح كلّ شارع منحل يسمّونه حرّا أيضا. حين أغضبتني الفكرة تساءلت فيما إذا كانت بلديتكم تستطيع أن تحل هذا الإشكال. بلديتنا مثلا لا تعاني من البلبلة في تعريف الأسماء. وعمالها النبهاء خطوطهم واضحة ومنمقة، وتعاني فقط من أخطاء إملائية قاتلة، أمّا عندكم فاللافتات كلّها مرتبكة أو مقلوبة أو مكفيّة على وجهها. تُرى هل ألقيت بالا لهذا الوضع الخطير الّذي تتردّى فيه المدينة؟ لكن، ماذا يهمّك أنت ما دمت لا تخرج من صفحات الكتب إلا لتنام أو تتناول بعض الفودكا؟ أنا هي من تقلق على مستقبل المدن الّتي تتمتع بقدر معقول من المعاقل الحرّة.

وهكذا خرجت من الباب الرئيس وجهاز التبريد الحر مثلوجة، أتأمل الاستمارة كأن عاملة البريد منحتني شهادة تفوق في الإرساليات الخاصّة وليس استمارة عادية من الورق الرخيص.

نظرتْ أسفل الاستمارة، فعثرتُ على الرقم الّذي تحبّه مصفوفا بعناية وبأرقام مربّعة لا تملكها طابعتي اليدوية. قيل لي بعد ذلك أنّ المؤسسات الحكومية تتوفر على شبيهاتها. وقبل أن أنسى، لم أخبرك أنّ رقمك المفضّل واحد وعشرون هو الرقم الذّي خرجتُ من بين مقطعيه إلى الدنيا. هل يعجبك أم أنّ عليّ أن أتوقع أنّك ستستبدله حالا برقم يناسب امرأة غيري؟ على العموم لا يهمّني بعد أن أرسلت أسراري كلّها داخل مغلف خمري إلى شارعك المحرر.

الصفحات