أنت هنا

قراءة كتاب ما وراء الجسد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ما وراء الجسر

ما وراء الجسد

كتاب " ما وراء الجسد " ، تأليف ميرفت جمعة ، الذي صدر عن دار موازييك للترجمات والنشر والتوزيع ، نقرأ من اجو

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

وخوليو محترفُ وحدةٍ، وحدته يا يوسف أخذت شكل جيتار، تعلم التحليق بالغناء حين فقد القدرة على الحركة؛ الوحدة جعلت خوليو يحلّق بصوت مجروح فيهمس في أذن وجعي. لطالما كانت الموسيقا صديقتي الأسرع حضوراً كلما حضر البكاء أو الأعياد أو الفرح، أستقبلها كالإنسان الأول ببديهية، آخذها حمولة كاملة من المباغتة والدهشة والذوبان.

مثلَ الإنسان الأول أنا بعدك يا يوسف، حين نزل إلى الأرض ولم يمتلك القدرة على إدراك ما يحيط به: الشمس؛ المطر؛ العتمة؛ والنور، تآمر الفصول على جَلده، ثم أصبح مع كل ضربة ومفاجأة، قادراً بشكل أكبر على التقاط تغريد الطيور ونقرها في مخيلته؛ همسات الغابات وأنين الزوابع، وحفيف الأشجار وموسيقى المياه القادمة من الشلال، وتلاطم الأمواج، فصار يهتز طرباً أحياناً، وخوفاً أحياناً أخرى، بفعل هذه الأصوات الجبارة الآتية من عالم غامض، فصفق لها بيديه وحاكاها بجسده، وضرب الأرض بالأقدام ثم ابتدع حركات الأجسام التعبيرية والصياح والبكاء.

أنا لم أرقص يوماً إلاّ على وقع الألم المبرح والعيون تنز دموعاً مالحة اختلطت بالكحل، والقلب طبلة، والدّفُّ أقدامي تضرب الأرض، غنى الإنسان الأول من شدة الفرح، من العشق والجوع، في وقت الحرب، عند الدفن، وغنى خشية غول الطبيعة، ولطرد الأرواح الشريرة. وغنى لنزول الأمطار، وأنا أرقص أستسقي حضورك فقط، رقصت معك وبك ولك، وأنا رقصت لموتك ثم كتبت شعراً لم يلق بغيابك فمزقته وأكملت رقصتي، كنتَ أنت الناي ترسم بموسيقاك رقعة من الفرح الممزوج بالتجلي والشجن وفي هذه الرقعة، كنتُ راقصة إغريقية أرقص فيقطر مني الشعر والبكاء، أغني وحدي بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير، كنت آخر الليل أستلقي متعبة فتصير أنت العود كما عرفه البشر أول مرة من لحم ودم، أتدري أن العود الأول كان قد صنع من جسد ميت، كم مقنع للحزن أن يكون عوداً من لحم وعظم ودم، أن تنبعث الموسيقى من صمت الحياة، أن تبتدع الأفراح طريقتها العجيبة في الولادة.

من جسد ميت انبعث صوت العود لأول مرة، فقد كان لأحد القدماء من أوائل البشر يا يوسف ابن يحبه حباً شديداً، فمات فعلقه بشجره فتقطعت أوصاله، حتَّى بقي منه فخذه والساق والقدم والأصابع، فأخذ خشباً والصقه على الجسد الصامت بعد أن رققه، وجعل الأوتار كالعروق، ثمَّ ضرب به وناح عليه، فنطق العود يا يوسف، وها أنت تصير الليلة عوداً بشرياً وأنا ريشة تحاول العزف والترنم.

غنى الناس لأوجاعهم كأن الغناء خمر سماوي، خمر يهطل وقت الحزن الشديد، وغنوا وهم يتشردون وتذكروا قراهم، وناحوا غناءً يحفظه أطفالهم دون أن يعرفوا شيئاً عن تفاصيل المكان إلاّ تميمة معلقة بصدر الجدة، وتطريزات واضحة على ثوبها ومفتاح كبير الرأس باهت اللون في صدر الجد، وأغنيات، أحبوا الوطن كما أحببنا الصلبان وأحببتم الكعبة، وكما نقبل كتبنا السماوية، شيء له علاقة بالإيمان في القلب قبل رؤيا العين، شيء من العشق، والغناء في حالة الهروب أغنية للحياة، أغنية تلمّح للرجوع وهي تعرف ما تقول، أغنية الشهداء قمح يفرش الأرض وماء يغسل الجبال وترنيمة تتخدر بها أوجاعنا، بكائي عليك كبكاء الحرائر على المفقودين، أحياناً كنت أشعر أن الرقص بكاءً يؤلمك، كأنه رقص على جثتك، مع ذلك بقيت أرقص، فأنا لا أتقن سوى البكاء رقصاً، ربما كانت هذه طريقتي الوحيدة في عتابك.

أما الأغاني فكانت تذكرني بوحدتي لكن بشكل رقيق، تربت على روحي، وكنت بحاجة لتربيتها. كان الغناء نديمي الوحيد في غيابك، كنت كل ليلة أعدّ مجالس الغناء لك؛ فأعتق الخمر، وأنشر الأزهار والشموع والورود وأتخيل تغريد القيان، فعلت ذلك زمناً طويلاً إلى أن صرت مخمورة بلا أغانٍ ولا رقصات مثيرة ولا نديم ولا خمر، صرت أنام متخذة شكل الفرشة، أحاكيها بمهارة، أقول لوسادتي: كوني بخير، وأنام دون ألم أو حزن أو فرح، أتخيل عيني أمي ترمقني إمعانا باللوم والإشفاق، تغطيني فأزيد غوصاً في انكماشي وهي تطفئ النور وتمضي، لطالما كانت أمي مقتنعة أن الوحدة تأتي عقاباً على مغامرات غير محسوبة النتائج.

حين علمت أمي بشان علاقتي بك يا يوسف أصابها الجنون، راحت تصرخ وتولول وتهدد بقطع علاقتها بي في كل المحافل، ولم ألمها؛ كوني أعرف كم هي امرأة متشددة؛ فهي المتدينة جداً والمتحفظة التي تفكر جيداً قبل أن تزل قدمها على الأرض، المرأة الحذرة في تصرفاتها حتى وهي وحدها، كيف لها أن تتخيل أن ابنتها قد تحب رجلاً من ديانة أخرى! أعتقد أن فكرة الحب وحدها عند أمي مرفوضة، وأنني ورثت جنوني من أبي، وبرحيل أبي أكسبتها رملتها شكلاً حاداً أكثر، وصدمة ملازمة على ملامحها، وصمتاً عميقاً وتديناً أكبر.

حينما انزاحت غيمة الجنون إثر معرفتها بأمرك، لم تسكت على حالي، ظلت تحاول بكل طرق الدهاء التي جبلت عليها النساء أن تبحث لي عن شريك ملائم، ولما يئست مني قالت بصوت جاف:

-الحب المستحيل كالفطر السام يا إيلين، ربما يعجبك نضوجه ويبدو طبيعياً وشهياً، وما إن يتناوله الشخص حتى يبدأ سمّه يسري في العروق، إيلين لديك حياة واحدة لا تبعثريها في محاولات فاشلة منذ البداية.

-أمي ماذا تعشيت أمس؟

صمتت وكأنها غير متأكدة إن كانت قد تعشت أساساً

-ماذا لبست، أين ذهبت، ماذا فعلت من جديد؟ على من تعرفت يا أمي وأنت عند طبيب الأسنان؟ أي حوار فتحت مع بائع البهارات غير حوار الأسعار وجودة القهوة؟ هل تعرفين إنه بشر مثلنا ولديه شيء من النكهات يضيفه على يومك غير حب الهال؟

صمتت، فنمط الأسئلة المتتالية المباشرة جديد عليها.

-الحياة إن أخذناها كمسلّمات، لم نتذوق فطرها الذي اشتهيناه يا أمي، إن لم نغرس أقدامنا في وحلها ونستكشف مخابئ هذا الفطر، ونلطخ أيدينا سعيدين ونحن نجتثه من تربته لزجاً ونضراً، ستكون حياتنا رتيبة، لم نعرف أجملها!

-حتى وإن كان ساماً؟

- أمي، لن أعرف أنه سام إلاّ إن أرداني السم، إلى الآن لم أعرف مع يوسف إلاّ حب الحياة، ألوان جديدة لم تكن في لوحتي ظهرت فجأة، أن تطلبي مني ذلك يعني أن تقطعي عن قلبي الأوكسجين؛ وأن أدفن حية..!

سكتت خائفة بشكل غريزي؛ خشية أن تقتلني بتفريقنا، لكنها قالت جملتها الأكثر عمقاً في نفسي:

-ستعيشين وحيدة.

الصفحات