أنت هنا

قراءة كتاب الشعر وأفق الكتابة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الشعر وأفق الكتابة

الشعر وأفق الكتابة

كتاب " الشعر وأفق الكتابة " ، تأليف صلاح بوسريف ، والذي صدر عن منشورات الضفاف للنشر والتوزيع ، نقرأ

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 9

(5)

عندما كان أبوتمام يخوضُ الشِّعرَ، وفق الشكل المألُوف الذي كان هو نظام زَمَنِهِ، فهو شَرَعَ في تقويض نظامٍ آخر، كان أَعْتَى من النِّظام الأول، أو هو شُروعٌ في تقويضِ نظامٍ آخر، أعني اللُّغَةَ.

ذهابُ أبـي تمام إلى التَّركيب، وإلى الصُّوَرِ والمجازات، هو ما جعله شعرياً، يُعِيدُ تَسْمِيَةَ الأشياءِ، أو البَدْءَ بتَسْمِيَتِها، خارج نظامٍ من الكلام، أصبحتِ اللُّغَةُ تَتَمَثَّلُهُ بنوعٍ من الاستعادة والتكرار. أعني أنَّ لُغَةَ الشِّعر، كما وصلت لأبـي تمام، والمعري بعدَه، كانت تَحْكُمُها رَوَاسِمُ تَرْكِيبَاتٍ ومجازاتٍ، البلاغةُ عملت على تَثْبِيتِها، وأسْرِها في أُطُر، كُلُّ كلام فصيح، لا يَحْدُثُ إلاَّ باقْتِفَائها.

لم يَكْتَفِ أبو تمام بماء النَّهر، بل غَيَّرَ المجرى، ووَضَع قارِئَهُ في حَرَجٍ، لأنَّ "المعنى" الذي كان يَفِدُ علينا من رَوَاسِم بلاغية، تَحْدُثُ بمجازات واستعاراتٍ "قريبة"، لم يَعُد مُتاحاً، أو مُمْكِناً، وفق معايير سابقة. تَحَلْحَلَ المعيارُ، ولم يَعُد قابلاً لاسْتِدْرَاجِ تلك المعاني "البعيدة"، التي خاضَتْها هذه اللُّغة الجديدة، في ما سمَّاه الجرجاني بـ"النَّظْمِ".

لعلَّ في عمل أبـي تمَّام هذا، ما جعَلَ اللِّسان يتَعثَّرُ، أو يَشْرَعُ، لدى بعض مُتَلَقِّي شعره، في مُزَاوَلَة قَلَقِهِ، واختبار هذا الوَافِدِ الجديد، أو هذا المجرى الذي هو طَرِيقٌ آخر، جاء هذا الشَّاعِرُ لِيُشِيرَ إلى مُنْعَرَجَاتِهِ، وإلى ما فيه مِنْ حَلاوَةٍ، يكفي أن نَقْبَلَ خوضَ أسرارها، لِيَسْتَلِذَّ اللِّسانُ ما فيها مِن طَلاوَةٍ وماءٍ.

أبو تمام هو أحد الشُّعَراء الذين زَاوَلُوا الكتابةَ، عكسَ الـمُتنبـي الذي كانَ شعرُه كلاماً. في مُزاوَلَة الكتابة يَحْدُثُ الوعي بنظام اللُّغة، أو بما يَتَرَسَّبُ في تراكيبها وصُوَرها من اسْتِعَادَاتٍ، قد لا نَتَنَبَّهُ إليها ونحنُ نُزاوِل الكتابةَ بالكلام، أو باللِّسانِ. ثمَّة فرق كبير بين ما يأتي من الكتابةِ، وما يأتي من اللِّسان، وهذا هو الفَرْقُ بين ما كتبه أبو تمَّام، وما كتبه، أو أنشده المتنبـي، وكُلُّ قياسٍ في هذا الإطار سيكونُ فاسِداً.

(6)

ستظل تجربة أبـي تمام فريدةً، إذا اكتفينا بالشُّعراء فقط، في نقل الكتابة من هيمنة الشَّفاهَةِ إلى وعي الكتابة. لا يُمكِن مُضاهاة هذه التَّجربة إلاَّ بما جاء في بعض التجارب الصُّوفية، خصوصاً في تحويل مجرى اللُّغة، أو في ابْتِداع طُرُق جديدة في التركيب، وفي بناء الصُّوَر والمجازات. لكن التجربةَ الصُّوفيةَ، جاءت في بعض أشكال كتابتها، أكثر جذريةً من تجربة أبـي تمام، كونها تَلَبَّسَت النثرَ، وذَوَّبَتِ الفرقَ بين "لُغَتَيْنِ"!، وَاحِدَة للشِّعر، وأخرى للنثر، لِتَصِيرَ اللُّغة إمكانَ كِتابَةٍ، لا فرقَ فيها بين ما يَصْلُحُ لهذا "النَّوْع"، أو ذاكَ. هذا ما عَمِلَ، في تجربة النِّفَّرِيِّ، مثلاً، على تحويل مجرى النَّهْر، من الشَّكل "العمودي" لـ"القصيدة"، إلى الكتابة ذات المجرى الـمُتَدَفِّق، الذي يُحِيلُ، في التصور الخَطِّيِّ السائد إلى النثر. فشَذْرِيَةُ كِتابَتِهِ، وما تحملُهُ من تَوَتُّراتٍ، في مستوى النَّظْمِ، والعلاقات التي تَسْتَحْدِثُها بين الدَّوالِّ الـمُختَلِفَةِ، هو ما جعل من الصَّوتِ يتراجَعُ قليلاً إلى الخلف، ليبرز المكتوبُ، ويظهر باعتباره "اجْتِرِاحاً" و"تَسْطِيراً"، لا مُجرَّدَ استعادة لِمَا ألِفَ اللسانُ لَفْظَهُ، أو إلْقَاءَهُ، دون كبير عَنَاءٍ، أو عَنَتٍ.

الصفحات