أنت هنا

قراءة كتاب تقرير إلى غريكو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تقرير إلى غريكو

تقرير إلى غريكو

كتاب " تقرير إلى غريكو " ، تأليف نيكوس كازنتزاكيس ، وترجمة

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 7

وداعاً!

أمد يدي وأمسك مزلاج الأرض لأفتح الباب وأمضي. غير أنني أتردد لحظة صغيرة على العتبة النيرة: عيناي وأذناي وأحشائي تجد أنه من الصعب، وأنه لمن أقسى الأشياء، أن تسلخ نفسها عن حجارة العالم وعشبه. يستطيع المرء أن يقول لنفسه إنه مكتف وإنه ينعم بالهدوء والسلام. ويستطيع القول إنه لم يعد يحتاج لشيء، وإنه قد أدى واجبه وإنه مستعد للرحيل. لكن القلب يقاوم. يتمسك بالعشب والحجارة ويتوسل: "ابق قليلاً!".

وأجاهد لتعزية قلبي وجعله ينسجم مع إعلان الموافقة بحرية. يجب أن نغادر الأرض ليس كعبيد ممزقين ومجلودين، بل كملوك ينهضون عن المائدة وهم ليسوا في حاجة لشيء، بعد أن أكلوا وشربوا حتى الامتلاء.ولكن القلب ما يزال يخفق داخل الصدر ويقاوم صارخا: "ابق قليلاً!".

أبقى. وألقي نظرة على الضوء. "هو الآخر يقاوم ويصارع كقلب الإنسان. الغيوم قد غطت السماء. ورذاذ دافئ يتساقط على شفتي. ورائحة الأرض تعبق. ويصدر عن التراب صوت حلو مُغوٍ: "تعال.. تعال.. تعال..".

الرذاذ يغزر. ويتنهد طائر الليل الأول، ويتساقط ألمه مع الهواء المبلل، بحلاوة رائعة عن الخضرة الملفعة بالليل.سلام وحلاوة هائلة.لا أحد في البيت. وفي الخارج كانت المروج الظمأى تتشرب أول زخات الخريف بامتنان وسعادة صامتة، لقد رفعت الأرض نفسها كالرضيع نحو السماء لترضع.

أغمض عيني وأنام ممسكاً بكمشة التراب الكريتي، كالعادة، في كفي. لقد نمت وحلمت حلماً. كان يبدو وكأن النهار قد بزغ. وكان نجم الصباح يتأرجح فوقي. وأنا، الواثق من أنه كان على وشك السقوط على رأسي، ارتجفت وركضت. ركضت وحيداً عبر الجبال الموحشة المجدبة. ومن أقصى الشرق ظهرت الشمس. لم تكن الشمس بل كانت صحناً برونزياً مقمراً مليئاً بالفحم المشتعل. بدأ الهواء يضطرب. وبين الحين والحين كان حجل يندفع من الريف الصخري يضرب بجناحيه ويقوقي ساخراً مني بقهقهة. وطار غراب، من انحدار في الجبل، في اللحظة التي رآني فيها. لاشك أنه كان ينتظر ظهوري. طار ورائي يتابعني وهو يتفجر بالضحك. انحنيت غاضباً والتقطت حجراً لأرميه به. لكن الغراب حول جسده وصار رجلاً عجوزاً صغير الجسم ينظر إلي باسماً.

ملجوماً بالرعب بدأت أركض من جديد. كانت الجبال تتزوبع، وأنا أتزوبع معها في دوائر تضيق باستمرار. غلبني الدوار. كانت الجبال تتواثب حولي. وبغتة أحسست أنها ليست جبالاً، بل بقايا مستحاثات لدماغ حيوان مما قبل الطوفان. وفوقي، على يميني، كان هناك صليب مطوق بالصخور الهائلة، وثعبان برونزي هائل مصلوب عليه. وعبرت ذهني ومضة نيّرة أضاءت الجبال من حولي فرأيت. لقد دخلت الوادي المتعرج الرهيب الذي عبره العبرانيون بقيادة يهوه منذ آلاف السنين عند هربهم من أرض فرعون السعيدة. هذا الوادي قد أسس الحدادة النارية التي تطرق بها بنو إسرائيل عبر الجوع والعطش والكفر.

تملكني الخوف. خوف ممزوج بفرح عظيم. انحنيت على صخرة لكي أهدئ جيشان أفكاري. وأغمضت عيني. وبغتة تلاشى كل شيء من حولي. وامتد أمامي خط ساحلي يوناني: بحر نيلي الزرقة معتم وصخور حمراء. بين الصخور ممر منخفض يؤدي إلى كهف مظلم. وامتدت يد من الهواء أوقدت مشعلاً في يدي. فهمت الأمر.

الصفحات