كتاب "هكذا أتشبه بالحجر" للكاتب الجولاني السوري نضال الشوفي؛ يضم قصصُا يستوحيها الكاتب والقاص ما أِشبه بالمراحل ما قبل وبعد، فيقول في مقدمة قصته الأولى التي حملت عنوان الكتاب: "لا أعرف شيئا عن «ماكس أوب»، حيا كان أو ميتا، كاتبا أو شاعرا أو شيئا غير ذلك، كهل
قراءة كتاب هكذا أتشبه بالشجر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 3
متى؟ وكيف؟ وأين؟ ...
وأنا أداري ارتباكي بمقتضب الجواب، أتلمس السبل للتملص أو لقمع تحشّر يقبض على أعصابي المستفزة أصلا. أنفث نفسا طويلا وأغمز في سري: لهذا أحب صحبة الشجر.
ثم أتابع سيري وأنا أدندن أغنيتي: «الإنسان غلطة، والعالم خلق للأشجار ...»
عندما أصل إلى البستان ينسدل ستار العالم من خلفي، وتنفتح أبواب جنتي، وما أقربها أن تكون، لولا المشهد الحدودي الرابض جهة الشروق. أقعي فوق التراب قبالته مستسلما لسدور يعبر بي مدى العمر، ثم يعيدني إلى الفصل الأخير محملا بالهموم. أم تنوء بأثقال الحياة فتحني الظهر شيئا فشيئا، تنكمش تعابير وجهها وتقسو قبل الأوان. وأخ يمقت العمل، ولا يعنيه من قادم الأيام سوى ما يغّيب وعيه من خمر وسموم، يهجر البيت ما شاء، ثم يعود ليهز أركانه الآيلة بالتطلب والنفور.
أقول لنفسي: لا بأس أن تكون هذه الهاوية مكانا ألقي به فضلات الكروب، وأعود إلى عملي أدندن للأشجار أغنيتي عن الأشجار.
عما قريب سُتجنى المحاصيل، فتبدل العصافير قوت موائدها. ستخلع البساتين زي المواسم وتنتظر عارية موعد المطر الأول، وتعاود الاغتسال هطولا بعد هطول حتى ترق قشورها وتصبح جاهزة للتبرعم من جديد. لكن الشتاء أيضا يزيد انطواء النفس بانطواء الجسد خلف الجدران الكالحة. لهذا تراودني الرغبة في أن أستحم هذا الشتاء مع الشجر. سأسابق الفصول وأبني غرفة صغيرة في بستاني الصغير هذا. سأخرج عاريا تحت شلال المطر، وأرقص مع الريح، وأميل مع الغيم الذي لا يعرف مستقرا. فإذا ما ابتعد، سأهز الغصون وأستكمل البلل ولسع البرد حتى يلين جلدي وتنمو في الربيع القريب على جسدي البراعم، سأكون أول إنسان يتحول إلى شجرة.
لكن أحلام النهار لا تدوم ظلالها في نفس كائن تقطع الكوابيس نومه.
في الليل أرى ريحا عاتية تمزق الغيم وتنثره نتفا، تقتلع سقف البيت وتقذفني إلى الحقل الممتد على طول الحدود. أنهض مذعورا لاهثا ممتقعا بالعرق، أقفز إلى الشباك أعب هواء منعشا، وأبلل جفاف حلقي برشفة ماء، وأنتظر متوجسا حلول الصباح.
وحين تضاء السماء بنور شمس لا زالت بعيدة، أكون على الدرب وحدي أستكمل سيري كمن يستكمل سباقا طويل المسافة، وكلما اقتربت من هدفي ازداد تثاقل أنفاسي، واشتد وجيب قلبي. ساومت نفسي على الرجوع وتعويض جسدي بقسط من الراحة.
لكن الريح التي رأيتها في نومي تدفعني من الخلف وتزيد تسارع مشيي، فما إن تحل نهاية الدرب، حتى أكون قد فقدت الشعور بأقدامي، وأسقط أرضا، وأصرخ بعالي الصوت، وأغرف بكفي التراب وأذريه في الهواء، وأشعر أن عينيّ لا تحتملان بشاعة ما أرى فأغمضهما وأصرخ من جديد، ثم أتهالك وأذرف الدموع حتى تجف مخازنها.
أفتح عينيّ من جديد وأنظر بلوعة إلى الأشجار المطروحة أرضا، وقبل أن أسائل نفسي عن الفاعل أرى أثار أقدام الجنود وعجلات جرافاتهم حفرت في التراب الرطب أثلاما أينما تحركت. استثمروا عتمة الليل، وانسحاب الناس إلى مخادعهم، واقتلعوا أشجار بعض البساتين، وانسلوا بعيدا لا أدري إلى أين. كتفاحة أحمل رأسي بين كفي متخبطا في تفكيري وحيرتي وحزني ، وأمضي في طريق العودة بخطى تزحف زحفا على الأرض الرجراجة تحتي، ولا أجد سبيلا إلا الغناء، فأغني أغنيتي بصوت متهدج ولحن جنائزي رتيب:
«الإنسان غلطة، والعالم خلق للأشجار ...»