يرصد الكاتب صقر أبو فخر في كتابه «أعيان الشام وإعاقة العلمانية في سورية» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والــنشر في بيروت؛ تطورات تكوّن النخب في ســـورية من مرحلة الانتداب الفرنسي، مروراً بمرحلة الاستقلال، إلى المرحلة التي حكم حزب البعث فيها، وصولاً إلى
You are here
قراءة كتاب أعيان الشام وإعاقة العلمانية في سورية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 3
إن جانباً من الاحتجاجات التي اندلعت في سورية في 2011/3/15 لا علاقة لها بالديمقراطية، ولم تتخذ شكل الاحتجاج السياسي في سياقه الديمقراطي، بل شكل الاحتجاجات الرثة (السلفيون)، أو الطائفية الثأرية (الإخوان المسلمون)، أو الإثنية (الأكراد)، ومثال ذلك شعار لا عرب ولا سريان، هذه كردستان الذي رُفع في أثناء تشييع معشوق الغزنوي في القامشلي في 2005/6/2· أما الفئات التي خرجت إلى الاحتجاج فيمكن تصنيفها كالتالي:
1· سكان الأرياف المهمشة المحيطة بالمدن·
2· ضواحي المدن التي تعج بالعاطلين عن العمل·
3· النازحون من مناطق القحط إلى ضواحي المدن·
4· أبناء الطبقة الوسطى المتعلمون والباحثون عن مكانة اجتماعية تليق بشهاداتهم، والذين ما عادوا يطيقون نظاماً استبدادياً·
5· مناضلون ومثقفون ومفكرون وكُتّاب وناشطون في هيئات المجتمع المدني·
6· أكراد وتركمان وأبناء أقليات قومية·
في أي حال، فإن ما يهمنا اليوم هو انتصار الديمقراطية في سورية، لأن الديمقراطية تعني أن شرعية السلطة لا تأتي من الله أو من الحاكم بأمر الله، بل من الشعب، الأمر الذي يعني أن في إمكان هذا الشعب أن يغير السلطة أو أن يحاسبها· وبمعنى آخر، فإن انتصار الديمقراطية ليس انتصاراً على الاستبداد وحده، بل على الفكر التكفيري السلفي والإخواني معاً· غير أن الثورات لا تجلب الديمقراطية بالضرورة· فالثورة الروسية ضد الاستبداد القيصري في سنة 1917 جلبت الاستبداد الستاليني· وثورة 23 يوليو 1952 ضد الملكية في مصر، لم تأتِ بالديمقراطية· والثورة الشعبية ضد شاه إيران في سنة 1979 أتت بالاستبداد الديني وسلطة الملالي· والثورة الشعبوية على نظام المجاهدين في أفغانستان حملت إلى السلطة جماعة متخلفة ورثة ومتعصبة هي طالبان
الديمقراطية، في مضمونها الجوهري، لا تعني، على الإطلاق، حكم الأغلبية ونقطة على السطر· ففي هذه الحال لنتذكر أن الديمقراطية أتاحت لهتلر وفرانكو وموسوليني الوصول إلى الحكم· والديمقراطية كما نتطلع إليها في سورية المقبلة، وفي بقية أرجاء العالم العربي، ليست مجرد نظام سياسي قائم على فصل السلطات فحسب، بل هي نظام للمجتمع التعددي، أي أنها عقد اجتماعي لا يجيز أبداً لمن وصل إلى السلطة بالانتخابات أن ينقلب عليها بذريعة الأغلبية، لأن من شروط سريان العقد التزام جميع الأطراف بنود هذا العقد·
الثورات العربية، كما بشرت الناس في بداياتها، تطلعت إلى الحرية في مواجهة الاستبداد، وإلى الديمقراطية في مواجهة الدكتاتورية، وإلى الكرامة كنقيض لامتهان الكرامة، وإلى العدالة الاجتماعية ضد الظلم الطبقي والفساد، وإلى المشاركة السياسية ضد التهميش· لكن ما حصل في مصر وتونس وليبيا وسورية كان قطعاً للطريق على هذه الأهداف، وعلى إمكان بناء مجتمع حديث ودولة عصرية· فقد وصلت جماعات دينية إلى السلطة تقوم في بنيتها على علاقة الشيخ (الرئيس) بأتباعه ومريديه على أساس البيعة· هكذا وظف الإسلاميون الجهل، وهكذا فازوا، وهذا نكوص عن المسار التحديثي الذي ظهر في تونس منذ سنة 1864 (خير الدين التونسي)، وفي مصر وسورية منذ القرن التاسع عشر مع محمد علي وابنه إبراهيم باشا·
إن توظيف الجهل والغرائز الدينية، وحتى المشاعر الوطنية، ليس جديداً في الحياة السياسية· ولعل أفضل مثال لذلك هو المافيا· ففي صقلية، وبالتحديد في سنة 1860، ظهر شعار Morte Alla Francia Italia Anelia (موت الفرنسيين هو صرخة إيطاليا)، والحروف الأولى لهذا الشعار تشكل كلمة MAFIA· وكان أعضاء هذه المجموعة وطنيين متعصبين يهاجمون جنود الاحتلال الفرنسيين والمتعاونين معهم· ثم راحوا يفرضون الإتاوات على التجار، ومن يرفض يُقتل أو تدمر متاجره· وكان القضاة يتغاضون عن جرائمهم، لأن القاضي الذي يتجرأ ويحكم على أحدهم يُقتل أو تُقتل عائلته· وفي سنة 1880 طلب منهم ملك إيطاليا بعدما ضجت الناس بأعمالهم الرحيل إلى أميركا، فرحلت العائلات الخمس الكبرى، وبدأت رحلة المافيا الأيطالية في البلاد الجديدة·
ما يجري اليوم في سورية يشبه، ولو شكلياً، ما حدث في ايطاليا في سنة 1860· فالمطالب الصحيحة للشعب السوري، وهي الحرية والديمقراطية والقضاء على النهب والفساد، ومحاسبة اللصوص والمجرمين، وتأسيس دولة عصرية جديدة، لا يجادل فيها أحد· لكن هذه الغايات النبيلة راحت تتحول على أيدي الجماعات التكفيرية والجماعات الثأرية والطائفية والعصابات المقاتلة إلى مجرد صرخة على غرار صرخة الأيطاليين ضد الفرنسيين· وما نخشاه هو أن تكون غاية الحرب في سورية هي فرط الجماعة الوطنية، وتفكيك الاجتماع البشري السوري، الأمر الذي سيؤدي إلى فرط الدولة التي نشأت على فكرة العروبة، عقب الاستقلال، وسيكون من المحال إعادة تكوينها إلا بصورة شوهاء، وعلى صورة المجتمع المفكك والمتكاره والمتعصب· العروبة هنا قوة دمج لمجتمع شديد التعدد والتنوع· ومن دون العروبة لن يتمكن السوريون من بناء دولة المستقبل القائمة على المواطنة المتساوية، بل سيصبحون سنة وعلويين وإسماعيليين ودروزاً ومسيحيين وأكراداً وتركماناً وشراكسة وأيزيديين وأرناؤوط وأبخاز، أي مجرد متحف بشري لأقوام متناحرة·
لماذا أُعيقت العلمانية في سورية بعد الاستقلال؟ لماذا ضمرت الديمقراطية في أرجائها مع أن النخبة شبه الليبرالية كانت موجودة طوال أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته؟ هذا ما سيحاول هذا الكتاب أن يجيب عنه في الفصول اللاحقة·
بيروت في 2013/1/5


