في كتاب "هندسة اقل·· خرائط اقل"؛ ثمة كائنات بشرية لفرط سكونيتها وعاداتها وحياديتها، تبدو غير ملحوظة، غير مرئية، يعبر المرء أمامها فلا تلفت انتباهه، لا تثير فضوله بالأحرى، لا يشعر بوجودها· تبدو كما لو أنها محجبة، أو أنها تتحصن خلف قناع· وهذا الكتاب يحتوي على
You are here
قراءة كتاب هندسة أقل.. خرائط أقل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 3
الوجه
الوجه يتحرك، يتشكل، يتحوّل·
على الوجه نقرأ حركة الزمن الذي يترك آثاره وعلاماته على الجلد، حيث كل تجعيدة تشير إلى تاريخ خاص·
على الوجه نقرأ الحالات المتغيرة، سواء أكانت عفوية أم مصطنعة أم فجائية·
نقرأ الانفعالات الخارجية: كالفرح والحزن والغضب والألم·
نقرأ ما تمليه القسمات والتضاريس من انطباعات ذاتية·
لكن من هذه القراءة لا نحرز سوى المعرفة الظاهرية، السطحية، التي لا تخلو من الالتباس وسوء الفهم· ذلك لأن معرفتنا بحالة الآخر، النفسية، محدّدة ومرهونة بما يعكسه الوجه، بما يظهره ويعبّر عنه، وليس بما يكمن في الداخل، وما يبطنه· نحن لا نعرف ألم الآخر إلا إذا أظهره، أما إذا كبحه، فقد نظن العكس، أو ربما لن يهمنا أن نعرف·
الوجه قد يعبّر عما يشعره صاحبه، لكنه لا يعكس التفكير والتجربة والنوايا· في حالة الشرود والتأمل ـ مثلاً ـ لن نجد تعبيراً صريحاً ومحدداً وواضحاً· وسؤالنا الدائم عما يفكر فيه الآخر فيما نحدّق في وجهه، يعكس قلقنا وعجزنا عن المعرفة من خلال النظر فقط· ومحاولتنا اختراق المظهر، للوصول إلى الحقيقة المفترضة، محكومة غالباً بالفشل·
الوجه إذن سطح لا يمكن اختراقه والنفاذ إلى عمقه· عالم مستغلق يتعذر سبره وفهمه، وهو يتحدى التأويل·
في مقابل الوجه كسطح عاكس، هناك مفهوم الوجه كقناع· إنه الذي يخفي، يموّه، يضلل·· حتى على المستوى الخارجي أو الظاهري· ومثلما يقدر الوجه أن يفشي ويبوح، كذلك يقدر أن يحجب ويقنّع· وأحياناً يصبح كوجه المهرج المطلي بالأصباغ، المصطنع، الجامد والذي لا يعبّر عن حقيقته بل يعكس مظهراً واحداً أزلياً، حيث التلميحات والإشارات مطموسة كلياً·
ثمة وجوه قديمة تحفظها الذاكرة ولا يمكن نسيانها، وأخرى تضيع وتتلاشى· تلك التي تركت أثراً عميقاً في تجربتنا معها، والتي عايشناها مديداً وسحرتنا، أو ارتبطت في الذهن بشيء مهم واستثنائي، تسكن الذاكرة فترة أطول من تلك التي عبَرت حياتنا في لمحةٍ من الزمن دون أن تؤثر فينا، أو من تلك التي احتواها الزمن وامتزجت بهواء الماضي فصارت شيئاً نحنّ إليه لكننا لا نستطيع أن نميّز ملامحه·
كذلك الأمر مع الصورة الفوتوغرافية، مع فارق أنها تحفظ الوجه في دقّته ووضوحه: قد تستحضر ـ الصورة ـ التاريخ الشخصي لصاحب الصورة وعلاقته بنا، وقد تخفق في تذكيرنا بحقيقة أو هوية هذا الوجه الذي يرفض مغادرة موقعه في الماضي، والإفشاء لنا بما كان يعنيه لنا وبمدى اتصاله بتجربتنا·
الاقتراب من الوجه هنا لا يعني بالضرورة الاقتراب من حقيقته ومن واقعه الذي ينتسب إليه· وكلما خذلتنا الذاكرة، ازداد الوجه غموضاً·
الوجه مادة للنظر· النظرة تستبيح، تمتحن، تسبر، تتحرّى·
باستقبال الوجه للنظرة، فإنه يستقبل رأي الآخر، تقييمه، حكمه، شعوره· بالتالي، هذا يؤثر على نظرة المرء لنفسه·
النظرات المتبادلة هي، في آن واحد، ذاتية وموضوعية، مرسلة ومستقبلة، رائية ومرئية، منتهكة ومستباحة·