You are here

قراءة كتاب مطر الله

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مطر الله

مطر الله

رواية "مطر الله" للروائية العراقية هدية حسين، الصادرة عام 2008 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، نقرأ منها:

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 6
بصوت خفيض ألقى عليك السلام، وسألك:
 
- أين يمكن أن أجد الحاج محسن؟
 
أجبته دون أن تتمعّن كثيراً في وجهه:
 
- أدخل تلك الدربونة، ثم خذ يمينك إلى دربونة أخرى طويلة ستوصلك إلى نهاية الحي، عندها ستواجه مزرعة واسعة، إسأل هناك، أي شخص سيدلك على قصره·
 
مضى الرجل إلى حيث أشرت له، ولو كنت قد عرفت ما جاء من أجله، لفبركت له أموراً تجعله يهرب قبل أن يفكر في استئجار الأرض الملاصقة لبيتك، والتي تخترقها ساقية، تأتي مياهها من النهر وتمر بعدة بيوت، ثم تمضي إلى مزارع الأغنياء في نهاية الحي·· هل تذكر؟ كنت قد فتحت باباً خلفياً، يطل على الساقية لتستخدمه عائلتك ومستأجرو غرف بيتك لأغراضهم اليومية، وكان الحاج محسن - مالك الأرض - في هذه الأثناء بصدد تحويل الساقية إلى اتجاه آخر، إذ أن المزارع اتسعت، وهي بحاجة إلى ساقية أطول وأعمق·
 
بعد أيام قليلة عاد الرجل الذي اسمه عباس، ومعه ثلاثة شبّان أقوياء، يحمل كل واحد منهم فأساً وكركاً، نزل الجميع من لوري محمّل بالتراب والأحجار، قطعوا ماء الساقية بوضع الأحجار على فمها، ثم دكوا الأرض وردموها بالتراب، ووضعوا في بعض الجهات علامات محدّدة، وعندما خرجت إليهم غاضباً قال لك عباس بصوته الخفيض الوقور: سنصبح جيراناً، لقد استأجرت الأرض من الحاج محسن·
 
لم تستطع فعل شيء، فأنت أيضاً لا تملك الأرض التي تقيم عليها·· وبعد يومين عاد الشبان ليشيّدوا دار عباس الذي ما حظي منك بود أبداً، فبقي جاراً غير مرحّب به، برغم محاولاته الاقتراب منك، ومما زاد من الجفوة بينكما أن اللّه أعطاه ولداً كثير المشاكل لا يشبه طبائع أبيه، كان اسمه مرتضى، وقد ناصب ابنك منصور العداء بسبب أن الأخير كان يسخر منه دونما سبب كلما رآه، وكان عباس كلما تشاجر ابنه مع ابنك يأتي ويعتذر منك عن ذنب لم يقترفه هو، ويعاقب مرتضى عقاباً متطرفاً، كأن يهدده بوضعه داخل گونية ورميه في النهر، أو بربط رجليه بسلسلة حديدية وشدّه إلى جذع النخلة طيلة ما بعد الظهيرة·· لكن هذا العقاب يزيد مرتضى شعوراً بالانتقام من منصور، وقام في إحدى الليالي بسرقة دراجته، تسلل من فتحة الدرج ونزل إلى بيتك ثم مشى إلى الزاوية التي يركن فيها ابنك دراجته، مشى دون هاجس خوف كأي لص محترف، أخذ الدراجة وغادر البيت من الباب الرئيسي وليس من فتحة الدرج، ثم مضى بها إلى الجسر الحديدي ورماها من هناك إلى النهر، وكان مصيره أن قضى شهراً في التوقيف لم يعترف بفعلته برغم التعذيب الذي تعرض له، ومشت الأيام والسنين على عكاز من قصب تصفر فيه الرياح، حتى استُدعي مرتضى للخدمة العسكرية في الوقت الذي كان فيه منصور يقدم أوراق البعثة إلى القاهرة، عمل مرتضى في ثكنة في الشمال، ويبدو أن الجيش قد غير الكثير من طباعه فأكمل الخدمة ثم تطوع وأصبح نائب ضابط، ودخل معارك عديدة خاضها الجيش هناك قبل أن تأخذه حرب الثمانينات إلى البصرة في أقصى جنوب البلاد، ويسقط أسيراً حينما تسقط مدينة الفاو، وعندما عاد من أقفاص الأسر بعد عشرين سنة لم يتعرّف عليه أحد أول الأمر، فقد عاد شيخاً طاعناً بالسن، تملأ وجهه التجاعيد وبلا أسنان حتى بدا كأنه والد أبيه، وكانت البلاد تستعد لعصر المفخخات·
 
***
 
ها أنت تراهم يتحركون، من أمامك ومن خلفك·· رجال شاحبو السحنات، نساء ضاجّات بالحركة، أطفال معفرة وجوههم بسوء التغذية وفقر الدم، وشابات رشيقات، وأخريات مكتنزات، يسفحن أحلامهن عسلاً وحسرة على الطريق·· تظن أنهم خرجوا من بيوتهم وأزقتهم، دون أن تدري بأنهم انسلوا من ثقوب ذاكرتك·· هل تراهم بوضوح أم أن عينيك الكامدتين تجعلهم يتخاطفون مثل ظلال في ليلة شتائية عاصفة؟ هل ترى تلك المرأة المفرطة في الغواية؟ المرأة التي تشم رائحة الرجال عن بعد، مثل كلبة سلوقية، وتعطي كل ذي نظرة حقها من الاهتمام أو من التجاهل·· إنها وردة، خرجت من بيتها، تمشي بدلال زائد عن الحد، وتلف عباءتها حول جسدها فتتواطأ الريح مع رغباتك المدفونة في قاع جسدك، تزيح ذيل العباءة فتبدو مفاتن جسدها من خلال ثوب القطيفة الأخضر الضيّق من جهة الخصر والصدر العامر الذي تلصف فوقه قلادة مجيدية الليرات··· وأراك في ذلك الزمان، وأسمعك·· أسمعك تماماً يا سيد مهران، وأسمع صوتها الناعم ذا الغنة المحببة، الذي يتموّج بالحروف فتضيع نهايات الكلام من فرط دلالها·· صوتها الذي يتسلل إلى ما تحت جلدك ويدغدغ فحولتك، تكاد تفترسها بعينيك الشرهتين، بينما كرة الشمس تختفي رويداً وراء صف النخيل تاركة في الفضاء لوناً أرجوانياً، قلت وأنت تستوقفها بابتسامة مخادعة:
 
- أهلاً بالقمر الذي يطل في وضح النهار ويمشي على الأرض·

Pages