You are here

قراءة كتاب الناجون

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الناجون

الناجون

في هذه الرواية التي تحلم بالتغيير في وطننا العربي، قسم يحمل عنوان "زمن الغضب والثورة" أسترجع من خلاله زمن السبعينيات... زمن الحلم بالثورة والتغيير الجذري من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على كل أشكال القهر والاستبداد.

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 3
وهو غارق في الإنصات إلى دقات قلبه العليل، سمع صوت امرأة تتكلم لغة نسيها منذ زمن بعيد. أو لنقل، لغة حرص أن يهيئ لها سبل النسيان باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الماضي الأليم الذي طرده نهائيا، من حياته. لم تكن تلك المرأة تتكلم فقط، وإنما تتألم أيضا:
 
- أشْنو؟ حالتْو تَتْسوء نهار عْلى نهار؟ واشْ كَيْقول الطّْبيب؟
 
- ...
 
- الله يا ربّي، الله! واشْ ما بْقَى أمل في العلاج ؟
 
- ....
 
ما إن سمع ذلك الصوت حتى بدأت دقات قلبه تتسارع، ودواخله تموج وكأن يد طفل مشاغب تسللت إليها خفية، وراحت تعبث بها. لم يكن قد انتبه إلى وجود المرأة وهو يتهاوى فوق الكرسي المجاور. أثاره مظهرها. كانت بشعرها الكميتي المنسدل فوق عنقها، وقميصها القصير الأكمام، وسروالها الجينز، لا تختلف عن باقي النساء الأوروبيات. امرأة طويلة القامة، ممتلئة امتلاء لم يؤثر على رشاقة جسدها، ولم يحل دون ظهور تقاطيعه وتضاريسه المتناسقة. وجد نفسه مشدودا إليها، يتنصت إلى حديثها ويتأمل ملامحها، مستغلا نظراتها الزائغة، وحركات رأسها الدالة على التوتر والانفعال... بدت له أول وهلة، في أواخر الأربعينيات من عمرها. لكنه عندما تأملها جيدا، بدت له في الخمسين أو تجاوزتها قليلا. ما وشى بذلك، التجاعيد الدائرية التي ارتسمت فوق عنقها الأبيض العاجي والترهل الخفيف الذي بدا أسفل ذقنها. ولو كان الفصل شتاء، لما توصل إلى معرفة سنها الحقيقية.
 
وجد نفسه تهفو إليها. لا. ليس إليها بالتحديد، وإنما إلى تلك اللغة التي دغدغت مسامعه، وهزت كيانه كما تهز الأرجوحة الطفل الصغير. ظل يصيخ السمع متلذذا بموسيقى الكلمات وبوقعها المنعش في أعماقه. يحس برائحتها تصعد إلى أنفه صعود رائحة الأرض وهي تمتص قطرات المطر الأولى بعد جفاف طويل... فجأة، توقفت المكالمة، بعدما سمعها تقول:
 
- لاًّ. غاديا نبقى حتى نشوف مع الطبيب الدوا الجديد. شكون عرف؟ الأعمار بيد الله!
 
توقف الإحساس الجميل الذي أشعره للحظة، بتلك الطمأنينة الطفولية التي كان يشعر بها وهو يتخيل نفسه في حضن الأم الدافئ الذي لم ينعم به قط، في حياته. أحس بألم حاد في معدته، وكأنها تعصر عصرا... كأنه كان صائما، وما إن جلس إلى مائدة الفطور الشهية، وأكل ثمرة شديدة الحلاوة، حتى سحبت يد خفية المائدة من أمامه، ورمت بها بعيدا، تاركة إياه يتضور جوعا.

Pages