من خلال كتابه " انزياحات أخرى " الصادر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمان .جاء الكتاب معنونا بـ " نصانيات"، وهو اقتراح شكل وبنيوي جديد ، يطرحه الدكتور محمد الأسدي ، رافعا لغته النثرية إلى أقصى درجات الشعر ، ومخلصا شعريته من روحها لتنـزل على النثر ضيفة رب
You are here
قراءة كتاب إنزياحات أخرى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
يكابد جيلنا مفصلاً انتقالياً نوعياً في سيرورة النص الشعري العربي ، بين مدرسة رائدة مضت في سلام ، وبقايا من القافلة لم نعد نجد على تلك الحدود التي أوصلوا إليها التجريب من إضافة تذكر .
والسؤال الآن .. من هو ولي عهد الشعر العربي الجدير بخاتم الشعر وبردته الكونية ؟ .. هل أن زمن الشعر قد مضى ـ كما تدّعي بعض الفرق السردية في خطاب الحماسة المعاصرة ـ هل الرواية والقصة هما ديوان العرب الجديد ؟ .. هل بات حصان الشعر عاجزا عن مجاراة حصاني القصة والرواية ؟
أرى أن الإشكالية إن وجدت ليست في النوع الأدبي نفسه وإنما هي في منتجه ، فثمة سمات ثلاث يمكن أن نعدها معياراً تنماز بوساطته أدبية النص ( محموله من الإبداع والمغايرة ) وهي أن يكون ممتعا ومفيدا وذا طبيعة خالدة سواء أكان لوحة تشكيلية أم منحوتة أم نصا شعريا أم روائيا أم قصصيا وعلينا ألا نتعالى على الأمم بمحميات نوعية للخطاب .
ليس دفاعا عن الشعر أن نذكِّر الخطابات النقدية القادمة على بارجة الحداثة لإعلان موت الشعر ـ بوصفه أهم اكتشاف معاصر بعد النظرية النسبية ـ بأن الشعر لم يتزحزح عن مكانته في عواصم الحداثة التي أسست للحداثة كما يفهمونها قبل أن يحدث ملاحو هذه البارجة بها أنفسهم ، فصرعة الخطابات المتعالية هذه تبدو متشدقة بالحداثة أكثر من أهلها ، وملمة بمفهومها وغائيتها أكثر من مؤسسيها ، في حين أنه ليس من خصومة كونية ملموسة بين الخطابين الشعري والسردي ، فالخطابات تشتبك متجاورة في قرية العالم التنافذي بأكثر مما كانت عليه إبان ولادة مشروعات الحداثة ، وما يزال الشعراء يشاطرون الروائيين القراءات العابرة للقارات ، فالقطيعة المدعاة بين الخطابين تبدو مقولة ضبابية ، ولن يستطيع أحد أن ينكر كون الشعر أبا الخطابات الأدبية جميعاً ، وأنه يعد أحد الخطابات الفضلى في التوصيل ، مما جعل أغلبية الروائيين والقصاصين يبتدئون شعراء ( جيمس جويز ، همنغواي ، فوكنر ، على سبيل المثال ) ، بل إن منهم من جمع بين الشعر والقص فكان علما في النوعين على نحو لا يمكن البت معه بكون نتاجه قاصا أكثر أهمية من نتاجه شاعراً ( أزرا باوند وبورخيس مثلا ) ، إن غواية الشعر مهيمنة على المشهد الثقافي العربي والعالمي ، ولم نتفاجأ بحصول الطاهر بن جلون ـ المصنف روائيا ـ على إحدى أهم جوائز الشعر في بلاده ، فكل المرويات السردية ترعرعت في أحضان الشعرية العالمية ، وإن كتابة قصة أو رواية ناجحة لا يقل صعوبة عن إنجاز نص شعري يجمع بين الإمتاع الجمالي والفائدة الفكرية والطبيعة الخالدة ، ولا تقاس حداثة الأجناس بالتجميعات الاعتباطية للرموز والأفكار ، وإنما تقاس بإفضائية الانزياح ، ومقاربة النص / الكتابة .
***
نعود لولي عهد الشعر العربي والمهمة الشاقة التي اضطلع بها بعد رحيل العنقاوات ، إذ لم يكد يُبقي تجريب الأفذاذ من الأسلاف والمعاصرين على احتمالٍ جمالي أو معرفي بكر بعد أن استخرجوا الأنماط العليا للتشكلات النصية ، وأعادوا إنتاج اللغة باللغة بفرادة واقتدار ، فلم يبق في مملكة الشعر الحصينة متكأٌ لمن يتأخر قيد أنملة عما تحقق فعلاً ، ما تبقى هو ذلك الحيز الذي سيحتله النص العابر للنصوص ، القادر على أن يحقق للتلقي العربي تلك الدهشة الجمالية البكر من جديد ، ، إنه الصوتُ العراقيُّ الحجازيُّ الشاميُّ المصريُّ المشرقيُّ المغربي القادم بقوة ، الصوت المفرد للذات المليونية .