في هذا الكتاب قراءة لهذه اللغة الشعرية وذلك على ضوء شواهد تم اختيارها لإظهار أسلوب الشاعرة "نجمة إدريس" وبالتالي يحتوي هذا الكتاب على جزئين الجزء الأول دراسة للسيرة الشعرية لنجمة إدريس والثاني عبارة عن نماذج مختارة ونصوص لأجمل ما دونت الشاعرة.
You are here
قراءة كتاب تتكسر لغتي.. أنمو
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
(3) سَفَرٌ ومخاضات
تظل التجربة الشعرية ذات نسب ووشيجة متأصلين في أنساغ حياة كاتبها وسيرته، مهما حاول المراوغة والالتفاف· ويقيني أن علاقة الشعر بحياة مبدعه لا تختلف عن علاقة الجنين بمشيمته : مربوط بها حدّ الاعتقال، وسابح في فلكها حتى نهاياته، ومستسلم لما تضخّه في أعراقه من جينات وسوائل وأغذية· صحيح أن الجنين قد يحرّك أطرافه، ويهزّ جذعه، ويقلب وضع رأسه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن أعلى نقطة إلى أدناها، ولكنه رغم ذلك يبقى مربوطاً إلى تلك المشيمة الجهنمية ! وعلى قدر ما تهيؤه هذه المشيمة من أغذية وسوائل، على قدر ما يربو الجنين أو يهزل، يكمل دورة حياته أو يسقط خديجاً· ورغم ما في تلك المشيمة - الحياة من قدرية لا رادّ لها، تبقى بكل زخمها ومنعطفاتها، وتوهّجها أو خمولها، مدماكاً أساسياً لنمو جنين الشعر وتشكّله، واكتماله خلقاً سوياً· لا توجد تجربة شعرية تستطيع أن تنسلخ عن حياة كاتبها النفسية والفكرية، وعلاقاته الإنسانية، وامتداداته في زمنه ومكانه، وتقلبات حياته· فكل هذا الزخم هو نسيج الشعر ونبضه، ولحمته وسداه·
كان عام 1981م عام منعطفات حياتية ومتغيرات· هكذا تأتي الأشياء قَدَرية حدّ الاستسلام، وحدّ الدهشة! صحيح أنه كان عاماً للموت والأحزان المباغتة، والهجران، وفراغ المكان، ووحشة القلب، إلاّ أن كل هذه الفوضى الوجدانية كانت جديرة - بعد اكتمال ذروتها - أن تقذفني نحو طريق جديد وفضاء آخر·
لم يشأ العام المثقل بالأحداث أن يودعني دون أن يختم شهره الأخير برحيلي إلى أرض نائية، اخترتُها واختارها قدري مهرباً، ومنفى، وفاتحة آمال ! لا أدري لماذا اختارت السماء أن تُثلج بكل تلك القسوة مطلع عام 1982م ؟! ولماذا ارتدَتْ المدينة ثوبها الأبيض الفاحش، وهي تستقبلني طالبةً في قسم الدراسات العليا في جامعة لندن ؟!
هكذا يبدأ الطريق بالصقيع·· بالوجه الضائع·· والقلب المرتجف يُتْماً وغربة!
وهكذا أراني وأنا أذوب في قوس الرمادي والأبيض، أن الأشياء فيَّ تتناثر وتتشظّى : وجهي، وجلدي، وصوتي، ولغتي ! وكان عليَّ لكي أوقف هذا التصدع أن أخترع توليفة ناجعة ترمم الجسر بين الذات وعالمي الجديد· كان عليَّ أن أعيد ترتيب بعض الأشياء، وتشذيب أخرى، والتخلي عن ثالثة، وقذف رابعة من النافذة· وكان حملي يخفّ يوماً بعد يوم، ويتشقق جلدي القديم، وتتلوّن ملامحي، وينمو ريشي·
كانت هذه المخاضات الجديدة وهي تعيد تشكيل العجينة التي كُنتُها تضرب في اتجاهين: الأول، ضرورة التعرّف على الذات الجديدة، والتأقلم مع طقوسها ومناخاتها· والثاني: أن أعقد صلحاً بينها وبين محيطها القريب والبعيد، كيما تقل الجفوة وتتيسّر المسالك والمنعطفات· كان لا بد أن تأتي الضرورة الثانية في المقدمة، لتهيء الأسباب لمناخات النفس وطقوسها· ومن هنا كان لا بد من اكتشاف العالم في البدء، والذوبان في أحواله ومفرداته: الخضرة والحقول·· وقرميد البيوت الريفية المدببة·· القطارات المتدثّرة بالأنفاق، والحافلات المترهلة بركابها·· قبلات العشاق اللامبالية·· رذاذ المطر، وانكسار الأشعة، وغمامات الضباب الصباحي·· نهارات الشتاء المختصرة حدّ الشهقة، ومساءات الصيف المصلوبة على شمس العاشرة مساءً··· معاطف وقفازات ومظلات·· وصحن حساء وحيد في نهاية المساء·· وآلة طابعة·· وأوراق تتناسل·· وكتب تنعس معي، لتوقظني حروفها المنمنمة كل صباح، كيما ألحق بقطار التاسعة صباحاً···
هذا العالم المتناثر في أحشاء الرهبة والوحشة، والمنكشف على العري والجمال، والمنفلت كالبريّة، كان كفيلاً أن يصدّع العديد من الجدران والقلاع، ويُحدث بعض الشقوق المباركة، التي أدخلت الشمس والأوكسجين· وكانت لغتي أحد هذه الجدران·
كم هو أمر بسيط حدّ البداهة، ومذهل حدّ الدهشة، حين تكتشف فجأة أن للتناثر والانفلات والتشظي معجزاته وآياته! وأنك تسبح في نثاره حراً نقياً، إلاّ من نشوتك ورؤاك التي لا يراها أحد ! ولكنك تدرك أيضاً وأنتَ تشق الشرنقة، كم هو مؤلم هذا المخاض، وكم يحتاج من لُهاث وترنّح ! بل كم يحتاج من جسارة تسلخك من حنينك القديم، وقوالبك الدافئة، وبقاياك !
كنتُ أدرك وأنا أكتب أول نص لي في قصيدة النثر عام 1983م، وتحت عنوان طقوس الاغتسال والولادة، أنني فعلاً أغتسل وأتطهّر، وأستعدّ لطقس لغوي آخر· ومن خلال هذا الحدس كانت تنثال عليَّ صور الماء والبحر والاغتسال والزعانف والأغنية المائية، بعيداً عن صليل الوزن ورنينه المهيب· وكنتُ وأنا أطفو فوق الثبج منتشيةً بالرذاذ والانعتاق، تطفو معي الحروف والأصوات والتفاعيل والكلمات المثلّمة وعلامات التعجب والاستفهام، كطيور نورس تكتشف بياضها لأول مرة ! وكان حريّ بتلك اللغة المغتسلة الطازجة أن تعيد ترتيب أبجديتها فوق دفتر الرمال المشمسة، لتدع وجهي بلا أصباغ وشَعْري موجة أَرَج بعد هذه الطقوس البدائية المبهرة، كان لا بد من تطهير حجراتي وزواياي من بعض الدبابير المتلكئة، التي وضعت بيوضها في دفاتري الصفراء، وكان لا بد من إنهاء الأزيز، وبقايا الأجنحة المحنطة، وولائم اللغة القديمة، كيما أستطيع فتح الكوّة المنوّرة واستنشاق نسيم البحر· هل كنتُ أحتاج إلى كل هذا التناثر في عالمي؟! كل هذا التفتّت والانصهار، كيما تتناثر لغتي وتتكسّر، وتعيد ترتيب أبجديتها؟!!