You are here

قراءة كتاب التوريث السياسي في الأنظمة الجمهورية العربية المعاصرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
التوريث السياسي في الأنظمة الجمهورية العربية المعاصرة

التوريث السياسي في الأنظمة الجمهورية العربية المعاصرة

في المألوف الثقافي العربي، يُوضع الوارث والسَّارق في شبكةٍ واحدة، تدليلاً على سهولة التمكّن من المال، وعدم الاعتناء بحفظه أو صونه وتوظيفه· ولكن السَّارق يأخذ مسروقاته بالحيلة والعنف، خلافاً لمعايير المجتمع وقوانينه، مُنتهكاً حرماتِ الآخرين وممتلكاتهم؛ فيما

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 1
مدخل إلى فلسفة التوريث:ما التوريث؟
 
في المألوف الثقافي العربي، يُوضع الوارث والسَّارق في شبكةٍ واحدة، تدليلاً على سهولة التمكّن من المال، وعدم الاعتناء بحفظه أو صونه وتوظيفه· ولكن السَّارق يأخذ مسروقاته بالحيلة والعنف، خلافاً لمعايير المجتمع وقوانينه، مُنتهكاً حرماتِ الآخرين وممتلكاتهم؛ فيما الوارث يحصلُ على موروثه بوصيّة تجعله مالكاً لما هو متروك من أهله أو من قومه· ويختلف الرأي في تحديد ما يُورَّث وما لا يُورّث· ففي حوار شعبي بين إثنين من مدينة بيروت، برز إختلافٌ في معنى التوريث القديم والتوريث الحديث· فمع ظاهرة تبدُّل الحِرَف والمِهَن، وظهور الشهادات العلمية والألقاب المهنية الجديدة (أطباء- مهندسون- محامون- علماء- صحافيّون- فنيّون- إلخ)، لم يدرك المتحاوران البيروتيّان مغزى السلالة الجديدة، وأهمية الشبكة الاجتماعية الجديدة التي تنتجها حداثاتُ المعرفتين العلمية-التقنية، والسياسة-القيادية· وإكتفيا بشبكتهما الاجتماعيّة التقليدية القائمة على توريث العقارات والبنايات والمحلاّت والأموال، وراحا يضحكان من أصحاب الألقاب العلمية التي لا يستطيعون توريثها لأولادهم وأحفادهم، كما كان يفعل الحِرَفيّون التقليديون في تعليم أبنائهم حِرفَهم ومهنَهم، وتوارثها أباً عن جَدّ، ثم توريثها من أب إلى ولد أو حفيد· وفاتَهما أنَّ فلسفة التوريث تقوم على التواصل أو التوصيل، بهدف الإستمرار أو الديمومة الحضارية، بصرف النظر عن تبّدل موضوعات الإرث والتوريث· كما فاتهما توريثٌ آخر، أخطر، هو توريث السلطة أو الزعامة، من القبيلة إلى الجمهورية، مروراً بالعائلة أو الأسرة، مع تفريق أساسي بين نظام ملكي أو نظام أميري قوامه الطبيعي التواصل بالتوريث، ونظام جمهوري أو شعبي قوامه الصُّنعي، التواصل بالإنتخاب· وفي هذا السّياق، يندرج الإختلاف السياسي حول ظاهرة التوريث، الموسومة بسمة التمييز أو التمايز: عليّ يرث وعليّ لا يرث! وفي كل حال، التوريث ظاهرة إجتماعية حضارية وعالمية، لا جدال في ضرورتها؛ ولكنَّ الخلافَ يدور حول أشكالها وشروطها، في المجتمع وأعرافه، وفي الدولة ودستورها وقوانينها· إنها ظاهرة متصلّة جذرياً بحفظ الجنس البشري، أشبه ما يكون بـ شبكة إجتماعية لا تخلو من تعقيدات؛ لكنّها شبكة ذات خروم، يخرج منها الكثيرون، ويبقى فيها القليلون، هم الوارثون· الخارجون من الشبكة الوراثية يراودهم شعور بالحرمان والظلم والاستبعاد، وفيما الوارثون لا يُخفون إمتيازاتهم، بصرف النظر عن مزاياهم وقدراتهم على النجاح أو الفشل في إدارة الموروث المادي، وتدبير الموروث العلمي أو التقني أو السياسي·
 
بعض الجماعات البشرية طوَّرت شبكاتها الوراثية، وأعادت النَّظر في مبدأ التوزيع الإجتماعي أو التوريث؛ ومعظم الجماعات التقليدية حافظت على شبكاتها الوراثيّة، فجمَّدت التطورَ في خارجها؛ وبدلاً من الوصل الاجتماعي الطبيعي بين الوارثين وغير الوارثين، أنتجت القطع والفصلَ، مما جعل التوريث، في عصرٍ ما، عقبةً اقتصادية أو سياسية في عَصْرٍ آخر· أما التوريث الاجتماعي العربي فهو محكوم بنظام السلالات والقرابات، وموقوف بالتنظيم القرآني والإسلامي، عموماً، فضلاً عن التنظيم الديني الآخر، لدى النَّصارى واليهود· وبما أنَّ هذه الدراسة تختصّ برصد ظاهرة التوريث السياسي في الأنظمة الجمهورية العربية المعاصرة (في النصف الثاني من القرن العشرين حتى اليوم)، فإننا لن نعود إلى تاريخ الوراثات الدينيّة وغير الدينية؛ ولن نتناول الأنظمة الملكية/الأميرية، المنسجمة في تقاليدها مع طبيعتها الوراثية/التوريثية، إلاّ على سبيل المقارنة· سنتناول إذاً، ظاهرة التوريث المختلف، الآخر، حيث يُقال إن الجمهور أو الشعب هو الوارث السياسي لسلطته أو دولته أو حزبه أو جماعته، فإذا بالواقع السوسيولوجي يقدّم نقضاً صريحاً لهذه المقولة، ويوفّر لنا نماذج وراثيّة سياسية ناجحة، ونماذج أخرى غير ناجحة أو غير مُتاحة· لماذا؟
 
لأن نظام الشبكة الاجتماعيّة يضعُ الناس بين حالتَي المُلك والهُلك، ويترك لهؤلاء إمكانين أساسيّين:
 
- إمّا التحجُّر على حَجَرٍ واحدٍ - حجر الوراثة من الأرض والمال والمعارف إلى الآلات والسلطات -، فلا يكون (تحضُّر) إلاَّ من خلال شبكة التحجّر الاجتماعي، وما يرافقها من وثنيَّاتٍ شخصية وصنميّات فكريّة، مما يُفضي إلى جمود النُّخبة الفكرية والسياسية والاقتصادية، على نَمَطٍ واحد، وسيولة التطور بلا مقاييس عصرية، مما يعني التخلّف عن التاريخ المعاصر، بل الخروج من التاريخ الكائن إلى ما قبله، ما فوقه، وحتى إلى ما يسمّى اللاتاريخ - شعوب تاريخية/ شعوب لا تاريخية·
 
- وإما التحاور والتبادل وفقاً لعدَّة شبكات إجتماعية لا محددة، حيث يستطيع الكائن المنتهي - أو الجماعة المحدودة - أن يخترع بخياله ما لا يتناهى؛ وهذا يعني أن المتناهي في مكانه يقاربُ بعقله الخيالي اللامتناهي، محاولاً الربط بين النسبي والمطلق، المُعطى واللامعطى، التاريخي واللاتاريخي؛ محقّقاً تحضّره من خلال تطوّره· وعلي سبيل المثال المجرَّد، نقول: إنَّ أرقام البشر (6 مليار في عصرنا) لا تُغطّي أرقام العدد (اللامتناهية سلباً وإيجاباً)؛ وفي المثال التاريخي؛ نُشير إلى ما خيَّب أملَ الشاعر الفرنسي جاك بريفير (J. Prevert) حين إسترجع السلالة الملكية الفرنسية، من لويس الأول إلى لويس الثامن عشر، فتساءَل: ما هذه السلالة التي لا تتجاوزُ هذا الرقم؟ وفاته أن السلالات البشرية مهما تكاثرت وتوارثت، لا تبلغ الأرقام اللامتناهية، التي اخترعها العقلُ البشري لفتح آفاقه وتوسيع آماله، لجعل الحياة المُقبلة ممكنة·
 
وبين هذين النموذجين، التحجّر والتحاور، تجري عمليّات التوريث البشري، محكومةً بفلسفةٍ مزدوجة: فلسفة مقاومة الهُلك بالمُلك، وفلسفة الاحتواء لأجل الامتداد في مادة الكون، والتمكّن من المكان· وعند هاتين الفلسفتين يتقاطع المتوارثون المحافظون والجمهوريّون، إذ إن موضوع البقاء واحد، وأساليب التوارث كثيرة، تجري على إيقاعاتٍ شتّى، نشير هنا، باختصار، إلى أبرزها·

Pages