المجموعة القصصية "صهيل الأسئلة" الصادرة عام 2002 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، نقرأ من أجوائها:
You are here
قراءة كتاب صهيل الأسئلة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

صهيل الأسئلة
الصفحة رقم: 4
كنت أرهف سمعي للكون وأصغي لأصوات الحياة وهي تتناوب الأدوار: دقّ حوافر الخيل، أزيز الجرّارات، خطوات العمال من جيراننا وهم يسرعون الخطى بعضهم نحو ديوان الزيت حيث يعمل قسم منهم في معاصر الزيتون والبعض الآخر نحو طريق دار العجايب يختلط وقع أقدامهم الغليظة على الأرض بأصواتهم المحمّلة بتحايا صباحية منعشة وكأنهم يريدون أن يصنعوا من محبتهم ونواياهم الطيّبة درعاً يقيهم المفاجآت القاسية التي قد يأتي بها النهار·
من ذلك الطريق كان يأتي عم مصطفى الحلايبي يسبقه صوته الشجي المتعالي مع رنين جرس درّاجته وكأنه يريد أن يوقظ من تخلّف من زبائنه حتى لا تفوته ساعة توزيع الحليب·
من بين تلك الحقول كانت تلوح في أيّام فصل الصيف عربة العم صالح بائع الثلج وكانت أشبه بصندوق مربع أزرق اللون يجرّه جواد قويّ يحدث وقع حوافره المخلوط برنين سلاسله المشدودة إلى العربة ضجيجاً في الحيّ فيخرج الناس من بيوتهم محمّلين بالأواني والسلال فيزوّدهم بما يحتاجونه من قطع الثلج ويضع ما تناثر منها بأيدي الأطفال الممتدة في هرج نحوه فينسحبون بها فرحين وهم يمتصون ماءها العذب المتقاطر بين أصابعهم الصغيرة ويعجبون كيف تذوب تلك القطع الصلبة من الزجاج بمثل تلك السرعة·
كثيراً ما كنا نسير سرباً من الأطفال نحو تلك الحقول، نشق ذلك الطريق الضيق تغذي نفوسنا النوادر والحكايات الطريفة التي نتناوب قصّها وكنت أرى أوراق الشجر ترتعش من حولنا فرحاً وألمح العصافير تتطاير فوق رؤوسنا تتدفق منها موسيقى ملائكية عذبة· كان الفلاحون يسمحون لنا باللعب في المساحات الفارغة فيتراكض الأولاد خلف بعضهم البعض كحملان بيضاء وتتحلّق البنات حول أزهار القرّيصة يخضبن بها كفوفهنّ الصغيرة يرشقن شعور بعضهن البعض بأزهار الأقحوان وشقائق النعمان··· وكثيراً ما يأتينا أولاد الفلاحين بخبز الطابون ويوزّعونه علينا بكرم سخيّ فنلتهمه بلهفة وهو ساخن وشهيّ وندعوهم للعب معنا·
كان يحلو لي أن أتمدد على العشب الطريّ أنتف قطعاً صغيرة من خبز الطابون وأتتناولها على مهل أو أن أتسلّق شجرة خروب كبيرة وأجلس بين تلافيف أغصانها لأتأمّل عن بعد بيوتنا الفقيرة تحتضنها في حنوّ المزارع الخضراء، كنت أنزل مسرعة كلّما رأيت إحدى الراهبات تقطع الطريق على دراجتها نحو دير قديم يقع في ناحية من تلك الأرض ويطلّ على مزارع منّوبة أترك رفاقي وأعدو خلفها بملء قوّتي غير عابئة بنداءات أخي··· تسمع الراهبة وقع خطواتي الرّاكضة في إثرها فتلتفت نحوي مبتسمة في هدوء وتواصل سيرها في حين يشتد تعبي ويضيق نفسي فأسقط على الأرض ويغطس أنفي في التراب·
في تلك البقعة التي شهدت هزيمتي كانت تقع أرض العمّ محمود حيث كنت أذهب في صباحات أيام الأحاد مع أختي الكبرى ونحن محمّلتين بقفّة ثقيلة فيها أقراص من العجين أعدّتها أمي منذ الفجر لتضعها زوجته في الطّابون حيث تتحوّل في دقائق قليلة إلى خبز شهيّ·
كانت أختي تنشغل بمساعدة تلك المرأة الطيّبة فتتناول أغصان الزيتون المتيبّسة من كومة الحطب المحاذية لشجرة صفصاف كبيرة وتضعها في النّار الملتهبة أسفل الطابون ولا تلبث أن تتصاعد من جوفها سحابة من الدخان الأبيض محمّلة برائحة الحطب المحترق· أغمض عيني وأستنشق ملء صدري تلك الرائحة منتشية بمعاني غامضة تحدثها في رأسي·
كيف تخونني تلك الرائحة ؟
كيف تصمت الأرض وهي تشهد هزيمة أصحابها ؟
هل تنفذ الخيانة إلى عمق الأرض ؟
أيتها الأرض الطيبة كحضن دافئ لماذا صمتِّ وأنت ترين أبناءك البدو يرحلون الواحد تلو الآخر بعد أن ضغطت عليهم الحكومة وأجبرتهم على الهجرة لتبني مكان مرج السّنابل العمارات وتستبدل الصفصافة بمحطّة للبنزين وطريق دار العجايب بشارع واسع يتربّص فيه اللّصوص بالمارة ؟