كتاب "البئر الأولى، فصول من السيرة الذاتية"، يقول المؤلف جبرا إبراهيم جبرا في مقدمة كتابه: أنا لا أكتب هنا تاريخاً لتلك الفترة· ثمة من هم أعلم، وأجدر، وأبرع مني في سلسلة ووصف أحداث العشرينات وأوائل الثلاثينات في فلسطين· ولا أنا أكتب هنا تاريخاً لأسرتي، لأن
You are here
قراءة كتاب البئر الأولى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
اقتربت منها - وكان فستانها طويلاً يكاد يبلغ الأرض· تلمسته، فقالت: ها؟ عندك شيء تقوله؟ فعلت شيئاً غير لائق؟
فقلت وأنا أنظر في عينيها العسليتين: ستّي، أريد أن أشتري دفتراً وقلماً·
- دفتراً وقلماً! ليش؟
- لكي أكتب·
- قل ذلك لأمك· أطلب ما تريد من أمك· أو انتظر إلى أن يعود أبوك في المساء·
عندما دخلت البيت، كانت أمي تتأمل في الطنجرة، وتخلط ما فيها· وقالت: أهلاً بابن المدارس!
قلت: يمّه، المعلم يقول أن عليّ أن آخذ معي دفتراً وقلماً للمدرسة
- صحيح؟ ومن أين أجيء لك بالدفتر والقلم؟
- الدفتر والقلم بنصف قرش· هكذا يقول الأولاد
- وأنا من أين لي نصف قرش؟ يلاّ أقعد وكل، وبلا دفتر وبلا قلم· نصف قرش، قال! وقبل أن تأكل، خذ شويّة حشيش للخروفين
أخرجت شيئاً من الحشيش الذي كنا نجمعه في كيس كبير في طلعاتنا الى الحقول، لكي لا نضطر إلى أخذ الخروفين للرعي كل يوم· وأخذته للخروفين الأبيضين، المربوطين في الخشيّة، كانا كلاهما متمرّغين في تراب الأرضية يجترّان· وحالما رأياني، نهضا، ووضعت لهما الحشيش، وأقبلا عليه بنهم، وأنا أربت على ظهر هذا وظهر ذاك·
صبّت أمي الطعام في قصعة كبيرة على الأرض وجلسنا حولها· وقالت أمي: هه! الآن دقّ الظهر! إذ راحت قباب الأديرة المنبثّة في البلدة تقرع أجراسها لتعلن انتصاف النهار، وأصوات الأجراس تتمازج عبر الفضاء، وهّاجة فرحة·
بعد الغداء عدت إلى المدرسة، ولعبنا، إلى أن دق المعلم جرسه· ودخلنا الصفّ· ولم يكتب أحد شيئاً هذه المرّة· كتب المعلّم حروفاً على اللوح، وطلب من جماعة منا أن نكررها وراءه :
ألف! فنصيح: ألف!
- باء!
- باء!
- تاء!
- تاء!
- ألف باء!
- ألف باء!
عندما خرجنا عصراً· جعلنا أنا واثنان من رفاقي نردد ونرنّم : ألف با بوباية، نصّ رغيف وكوساية··· ومررنا بدكان حنا الطَّبش، وواجهته مليئة بالدفاتر والأقلام والمحّايات· دخلت وسألت البائع : عمّي، بدّي قلم ودفتر
- معك تعريفة؟
- لا
- روح وأحضر نصف قرش· وخذ أحسن قلم وأحسن دفتر
وعدت إلى البيت، ووجدت جدتي في الحاكورة تلمّ الغسيل· ونظرت إليها راجياً، ففهمتني في الحال· ودون أن تقول كلمة واحدة، وضعت يدها في عبّها، ووأخرجت منديلاً معقوداً· وحلّت عقدتين وانفتح المنديل عن أربع أو خمس قطع نقدية، التقطت منها نصف قرش مدوّراً مثقوباً، وقالت : خذ· ولا تخبر أمك· يلاّ من قدامي، عنفص!