يقدِّم جلعاد عتسمون سرداً شائقاً وآسراً لرحلته من قومي إسرائيلي متطرِّف إلى مواطن للإنسانية تجرَّد من الصهيونية، وبات مدافعاً متحمِّساً عن العدالة من أجل الشعب الفلسطيني· إنها قصّة تحوّل يرويها بنزاهة مطلقة، بحيث يتعيّن على كلّ أولئك (خصوصاً اليهود) المهتمّ
You are here
قراءة كتاب من التائه؟
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 10
في منتصف الثلاثينات من عمري، بينما كنتُ بعيداً عن منطقة الشرق الأوسط، انجذبتُ إلى موسيقى السكان الأصليين في بلادي· لم يكن الأمر سهلاً؛ بل - للحق - كاد يكون غير ممكن على الإطلاق· فبقدر ما كانت موسيقى الجاز سهلة الاستيعاب بالنسبة لي، فإن الموسيقى العربية كانت شبه مستحيلة· كنتُ أشغِّل الموسيقى، أمسك الساكسفون أو الكلارينت، أحاول أن أدمج صوتي معها، لكن الموسيقى الناتجة في النهاية كانت تبدو أجنبية تماماً· وسرعان ما أدركتُ أن الموسيقى العربية لغة مختلفة بالإجمال· لم أعرف من أين أبدأ أو ما السبيل إلى مقاربتها·
بدرجة ما، تُعدُّ موسيقى الجاز نتاجاً غربياً مع تأثير أفريقي كوبي كبير· ظهرت هذه الموسيقى مطلع القرن العشرين، وتطورّت على هوامش الثقافة الأميركية· تتألف البيبوب، وهي الموسيقى التي تربيتُ عليها، من قطع أو ألحان موسيقية قصيرة نسبياً· ويُعزى قصر هذه المقطوعات اللحنيّة إلى الحقيقة بأنها يجب أن تلائم صيغ التسجيل البالغة مدّتها ثلاث دقائق والمعتَمَدة في أربعينات القرن الماضي· من السهل ترجمة أو نسخ الموسيقى الغربية في محتوى بصري ما من خلال رموز النغمات والنوتة الموسيقية المتعارَف عليها· بالتالي فإن موسيقى الجاز، على غرار معظم أشكال الموسيقى الغربية، رقميّة جزئياً· أما الموسيقى العربية، من جهة أخرى، فهي تناظريّة لا يمكن نسخها أو ترجمتها إلى رموز· وإذا ما حاولنا ذلك فإنها سوف تفقد أصالتها· ما إن بلغتُ ما يكفي من النضج الإنساني لـمواجهة موسيقى موطني بالمعنى الحرفي، حتى وقفتْ معرفتي الموسيقية حائلاً في الطريق·
لم أفهم ما الذي كان يمنعني من إتقان الموسيقى العربية، أو لِمَ لَمْ تبدُ صحيحةً حين حاولتُ أن أعزفها· كنتُ قد أنفقتُ وقتاً كبيراً في الاستماع إليها والتدرّب على عزفها، ومع ذلك لم تكن التجربة ناجحة· مع مرور الوقت، بدأ صحفيو الموسيقى الأوروبيون يعربون عن تقديرهم لموسيقاي الجديدة، ناظرين إليّ كـبطل جديد للجاز تمكنّ من تجاوز الخط الفاصل كخبير في الموسيقى العربية· على أنني كنتُ أعرف أنهم على خطأ - فإنني وإن كنتُ قد بذلتُ جهداً كبيراً سعياً لتجاوز الخط الفاصل المزعوم، فقد كان من السهل أنْ أدرك أنّ موسيقاي وتأويلي دخيلان على الموسيقى العربية الحقيقية·
ثم اكتشفتُ حيلةً سهلة· فأثناء حفلاتي الموسيقية، حين كنتُ أحاول محاكاة هذا الصوت الشرقي المراوغ، كنتُ أغني أولاً بيتاً أو سطراً يذكّرني بالأصوات التي تجاهلتُها في طفولتي· تراني أحاولُ استعادةَ رجع صدى صوت المؤذِّن إذ ينساب في الشوارع من الوديان المحيطة، والأصوات المدهشة التي لا تزال تلازمني لرفيقيّ ظافر يوسف ونزار العيسى، بالإضافة إلى صوت عبدالحليم حافظ الخفيض، متلكئاً في المكان لم يزل· في البداية، كنتُ أغمض عيني فقط وأستمع بأذني الداخلية، لكن دون أن أدرك الأمر، بدأتُ أفتح فمي أيضاً تدريجياً، وأغنّي بصوت مرتفع· ثم أدركتُ أنني إذا غنيتُ بالساكسفون في فمي، قد أصلُ إلى صوتٍ يشبه إلى حدّ كبير الصوتَ المنبعثَ من الأبواق المعدنية للمساجد· لقد حاولتُ لفترة طويلة الاقتراب من الصوت العربي، لكنني الآن نسيتُ ببساطة ماذا كنتُ أسعى إلى تحقيقه، وبدأتُ أستمتع·
بعد فترة من الوقت، لاحظتُ أن أصداء جنين والقدس ورام الله بدأت تنبعث بصورة طبيعية من جرس بوقي· سألتُ نفسي ما الذي حدث، ولماذا بدت الموسيقى أصيلةً فجأة، فخلصتُ إلى أنني تخلّيتُ عن العين كأولوية، وكرّستُ اهتمامي بدلاً من ذلك للأذن كأولوية· لم أبحث عن الإلهام على الورقة، كما لم أبحث عن البصريّ أو التحليليّ في النوتة الموسيقية أو رموز النغمات· استمعتُ، بدلاً من ذلك، إلى صوتي الداخلي· لقد ذكّرتْني معاناتي مع الموسيقى العربية بالسبب الذي جعلني أُقبل على عزف الموسيقى في المقام الأول؛ ففي نهاية المطاف كنتُ قد استمعتُ إلى بيرد في الراديو ولم أشاهده في قناة إم تي في التلفزيونية·
من خلال الموسيقى، وتحديداً صراعي الشخصي جداً مع الموسيقى العربية، تعلّمتُ أن أستمع· بدلاً من النظر إلى التاريخ أو تحليل تطوّره بالمعنى المادّي، فإن الاستماع هو الذي يتجلّى في جوهر الإدراك العميق· ويتبدّى السلوك الأخلاقي حين تُغمض العيون، فتشكّل أصداء الضمير لحناً موسيقياً داخل روح المرء· أن نتعاطف مع الآخر يعني أن نتقبّل أن تكون الأولوية للأذن(17)·


