You are here

قراءة كتاب سنوات الضياع

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
سنوات الضياع

سنوات الضياع

كتاب "سنوات الضياع: سيرة صفد تاريخاً و شعباً"، الذي اهداه الكاتب علي الصفدي لروح والده، قائلاً: الى روح والدي رحمه الله التى حلقت معي عبر الصفحات القادمة، وقفزت منها الى موقع الأحداث التى تدور حولها، الى اجواء مدينة صفد تأبى مبارحتها كما بارحها جسده قسرا، و

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 1
اقتلاع مـــن الجــــــــذور
 
وجد الفتى فارس نفسهمنتزعا من فراشه الدافئ، وملقى به في خضم موجات متلاحقة من البشر المذعورين، تتقاذفه يمنة ويسرة، وترتفع به صعودا، فيطير كريشة في مهب الريح. ثم تهبط به نزولا، فيسقط جسده الغض النحيل أرضا، وتتعثر خطواته فوق أرض طينية غمرتها مياه الأمطار ألغزيرة، فيتسبب في سقوط شقيقه الأصغر الممسك بيده بشدة، فينهضان بسرعة ويلتصقان بأبيهما المثقل بحمل شقيقهما الأصغر، والى جانبهما تسير أمهم محتضنة طفلها الرضيع.
 
ينظر الى وجه أبيه عمر فيجده مسكونا بهموم الدنيا كلها. عيناه تلتمعان من بقايا دموع ساخنة جفت في مقلتيه، عابس الوجه مقطب الجبين شارد الذهن زائغ النظرات، ويلتفت حوله مشدوها فيتراءى له أناسا هائمين على وجوههم وكأنهم في يوم الحشر يحاولون عبثاً حث الخطى ودفع أقدامهم الى الحركة ولكن دون جدوى فأقدامهم خذلتهم هذه المرة وعصت أوامرهم وبقيت ملتصقة بالأرض لا تقوى على مبارحتها . غير أنالموت الزاحف خلفهم واقتراب أخطاره الماحقة منهم قضى على تمردها وساقها أمامه فتحركت بخطوات متأرجحة متثاقلة حملت أجسادا خاوية منهكة بعد أن فصلتها عن أرواحها التي ظلت معلقة في سماء مدينتهم التى انقلب حالها في ليلة واحدة فالتهمت النيران جسدها، وشوهت القذائف ملامح وجهها ، وابتلع الرعب سكونها، وأفرغها شبح الموت من محتواها.
 
ولم يكن سهلا أو يسيرا على أهالي مدينة صفد عاصمة الجليل في فلسطين هجر مدينتهم أو الابتعاد عنها ، فقد امتزج تاريخهم بتاريخها وارتبط ميلاد أجدادهم بميلادها ، وامتدت جذورهم ألي أعماق أديمها، وتكونت ملامحهم في رحمها، ونضج نموهم في أحضانها، ونشأوا وترعرعوا وفرحوا ومرحوا في أحيائها ، ألا انهم اجترعوا مرارة الافتراق عنها مجبرين مغلوبين على أمرهم ، فإما البقاء والموت وإما إخلاء المكان، وأثروا إنقاذ أنفسهم وأطفالهم من الهلاك الذي كان يلاحقهم ظنا منهم أن غيابهم لن يطول كثيرا عنها ، ولن يتعدى اكثر من أسبوعين أو ثلاثة أسابيع كما أشيع بينهم وصدقوه بطيبة وحسن نية. يعودون بعدها لإحياء مدينتهم وتعميرها من جديد بعد أن تهدأ الاوضاع وتستقر الأمور ، وبعد أن يندحر العدوان الصهيوني الضاري وتنتصر الجيوش العربية القادمة لإنقاذ فلسطين. ولشدة تيقنهم من عودة قريبة ألي بيوتهم فقد تركوا فيها أمتعتهم الشخصية ومقتنياتهم الثمينة ومصاغ نسائهم، وأكثرهم ترك تحويشة عمره مخبأة تحت عتبة بيته أو داخل فراشه التى ينام عليها. وهي المخابئ الأمينة في اعتقادهم التي كانوا يلجأون أليها . اغلق كل منهم أبواب بيته بالمفاتيح والأقفال، واحتفظ بالمفتاح الرئيسي وحرص عليه حرصه على نفسه حتى يتمكن من استخدامه بعد زمن ليس ببعيد. خرجوا يجرون أنفسهم وأطفالهم ونساءهم فقط، وخلت ايديهم من أية حمولة وخوت جيوبهم من أية نقود، لم يضع أحدهم على كتفيه سوى معطف سميك يقيه غزارة الأمطار التى لم تنقطع، ولم يخرج من بيته سوى بطانيات يغطى بها أطفاله الصغار الذين لا يقوون على الوقوف والسير. 

Pages