على مدى الأربعمائة إلى الستمئة سنة التي سبقت، شهدت معظم أجزاء الكرة الأرضية انتشار حضارة ومجتمعات تكرس الفكرة التي انطلقت من معظم أنحاء أوروبا والتي تعتبر التجارة والاستهلاك مصدرين أساسيين للعيش الكريم.
You are here
قراءة كتاب الرأسمالية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ما يركز عليه الكتاب
يمكننا تلخيص توجهنا في هذا الكتاب كما يلي: لقد انبثقت عبر القرون الخمس أو الست الماضية ثقافة مميزة، أو طريقة في الحياة، يهيمن عليها إيمان بالتجارة والبضائع الاستهلاكية كونها مصدراً للرزق والعيش الكريم. وقد ازدهرت هذه الثقافة في أوروبا الغربية ووصلت مرحلة نضجها في الولايات المتحدة ثم انتشرت إلى معظم ما تبقى من أصقاع الأرض، موجدة في طريقها ما يطلق عليه علماء علم الإنسان وعلم الاجتماع والمؤرخون النظام العالمي. ويختلف الناس حول العوامل الجوهرية التي أثرت في تطور مثل هذا النظام وحول ما إذا كان ينبغي اعتباره نظاماً فريداً في التاريخ، رغم أن معظمهم يتفقون على بعض الأفكار الأساسية. ومن بين أهم هذه الأفكار تلك الفرضيات القائلة بأن القوة الدافعة وراء انتشار النظام العالمي المعاصر كانت الرأسمالية الصناعية ورأسمالية الشركات، وأن هذا الانتشار يرتبط بطريقة ما بالنتيجة التي وصل إليها العالم؛ وهي الانقسام إلى أمم غنية وأمم فقيرة أو إلى مناطق ثرية ومتطورة وصناعية ومناطق هامشية متخلفة وغير صناعية تعتمد في رزقها على الغير.
وقد رافق انتشار النظام الرأسمالي العالمي إيجاد أنماط مميزة من العلاقات الاجتماعية، وطرق للنظر إلى العالم ووسائل لإنتاج الغذاء وأنظمة غذائية للحمية ونماذج صحية ومرضية وعلاقات مع البيئة وغيرها. ولكن انتشار هذه الثقافة لم يمضِ بدون تحدٍّ. فقد ظهرت هناك مقاومة على شكل تحركات، مباشرة وغير مباشرة، بدءاً بالتحركات السياسية والدينية ومروراً بالاحتجاجات الاجتماعية إلى التمرد والثورة. من بين الأسئلة التي يعرضها هذا الكتاب أسئلة تتعلق بكيف ولماذا تطورت هذه الحضارة الرأسمالية، وما هي الأسباب التي أدّت ببعض الجماعات إلى مقاومتها والاستمرار في مقاومة امتدادها وتطورها ؟
إن الأجوبة على تلك الأسئلة مبنية على فرضيات معينة. أولاً إن المبدأ الأساسي في علم الإنسان هو أن العوامل الشخصية والاجتماعية والثقافية والتاريخية هي التي تحدد وجهة نظر أي إنسان تجاه ظاهرة معينة. وهذا الأمر يصح أيضاً بالنسبة لهؤلاء الذين يشاركون في حضارة الرأسمالية، والذين وضعوا رؤية لهذه الأحداث العالمية التي نشارك فيها. بالنتيجة، تنزع هذه الآراء والأفكار من جانب إلى آخر لأن تكون مرتكزة حول النظرة العرقية، أي أن الناس يصفون الأحداث ويقيمونها ويحكمون عليها فقط من خلال منظور ثقافي محدد. ولعل من بين أهم الأهداف التي يسعى علم الإنسان لتحقيقها هي تعليم طرق تجنب التمحور حول المبدأ العرقي وتقدير أهمية تفهم معتقدات وسلوكيات الآخرين من منظورهم هم وليس فقط من منظورنا، وهذا المفهوم يطلق عليه علماء علم الإنسان النسبية الحضارية. إلى حدٍّ ما تبقى مسالة التمحور حول العرقية مسألة لا يمكن تجنبها، وعلى الشخص الذي يقوم بتفسير الأحداث الدولية، أكان صحفياً، أم اقتصادياً أم عالِم اجتماع أم باحث في علم الإنسان، أن يجعل هذه الأحداث قابلة للاستيعاب من قِبَل الأشخاص الذين يستهدفهم هذا الشخص في كتاباته. وفرضيتنا هنا هي أنه من أجل تخفيف التعصب الحضاري، علينا أن ندرك أن نظرتنا للأحداث تتأثر جزئياً بثقافتنا، وأنه لهذا السبب علينا أن نضع ثقافتنا موضع التحليل.
ثانياً: نحن نفترض أن فهم الأحداث الدولية يتطلب منا إدراك أنه لا يوجد ثقافات أو مجتمعات معاصرة مستقلة عما يطلق عليه علماء الإنسان «النظام العالمي» . وأن كل من هذه المجتمعات والثقافات تقع في مركز هذا النظام أو على أطرافه. ولعل استخدام مثل هذا المصطلح، الذي يشير إلى أجزاء مختلفة من العالم، يتيح لنا المجال لتجنب الفروقات المفعمة بالقيم والمتضمنة في استخدام مصطلحات أخرى مثل نامية أو غير نامية، حديثة أو تقليدية، عالم أول ثاني وثالث... وغيرها.
وغالباً ما يقوم منظور الأنظمة العالمية بإدخال تصنيف ثالث نصف هامشي للإشارة إلى تلك الدول أو الأمم أو المناطق التي تتحرك نحو المركز أو التي تتحرك إلى خارج المركز. إلا أن هذه الفروقات تساعد الناس على إدراك أن بإمكان الدول التحرك من تصنيف إلى آخر. على سبيل المثال: هيمن منظرو النظام العالمي التابعون للدول الثلاث هولندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة طوال الأربعة قرون الماضية، وهي دول بدأت شبه هامشية بالنسبة للنظام العالمي.
ثالثاً: نحن نفترض أن الأحداث والتحركات العالمية لا يمكن فهمها بشكل كاف دون أخذ الأحداث التي سبقتها بعين الاعتبار، إذ أن علينا تطوير منظور تاريخي، فنحن على سبيل المثال نعيش في حقبة من التاريخ الإنساني تحددها سلسلة من الأحداث التي بدأت منذ أربعمئة إلى خمسمئة عام، أطلق عليها في ذلك الحين اسماً فضفاضاً هو الثورة الصناعية. ولأن كل واحد منا عاش مرحلة معينة من ذلك التاريخ، فإننا نميل إلى التسليم جدلاً بأن العالم كان كما هو عليه اليوم. إلا أن النظام العالمي الصناعي الحديث، يعتبر ضمن المصطلحات التاريخية، حدثاً جديداً. كما أننا وبسبب تركيبتنا الحياتية ومحدودية أعمارنا نجد أنفسنا مخدوعين بفكرة اعتبار الستين أو السبعين أو الثمانين عاماً فترة زمنية طويلة، رغم أنها تعتبر في منظور التاريخ الإنساني لحظة عابرة. فقد عاش البشر لمعظم فترة وجودهم على وجه الأرض ضمن مجموعات من الصيادين وجامعي الغذاء، وعاشوا لمدة أقصر كمزارعين وحديثاً فقط أخذوا يعيشون كصناعيين وعُمّال يعملون برواتب. ولكن هذه الثورة الصناعية غيرت العالم والمجتمعات البشرية بطريقة لم تغيرها أي أحداث من قبل، ولا يمكننا فهم الأحداث والقضايا والمشاكل التي تعصف بنا اليوم دون أن نفهم كيف ولماذا حدثت الثورة الصناعية.
سوف يكون واضحاً أن انبثاق الرأسمالية يمثل حضارة من أنجح الحضارات التي تم تطويرها من حيث توفير الراحة والرفاه لأعداد كبيرة من البشر، إلا أنها لم تكن ناجحة إلى هذا الحد في دمج الجميع ضمن معيار واحد. ولعل فشلها هذا يعتبر أحد أهم معضلاتها. لقد حلت الرأسمالية مشاكل إيجاد الغذاء لأعداد هائلة من البشر، وليس لجميعهم بالتأكيد، كما أنها عملت على تطوير أدوات تقنية مدهشة ومعقدة وأوجدت مستوى غير مسبوق للاتصالات العالمية، ووحدت الناس ضمن مساعٍ ومسارات مشتركة لم تسبقها في ذلك أية حضارة، ومع ذلك فسيبقى علينا أن نرى عندما يوضع حساب الموازين إذا كانت هذه الرأسمالية تمثل خلاصة التطور كما يزعمون.