كانت عصاه تهزأ من العمر الثقيل المتكىء على نحافتها وهي تقرع الرصيف البحري قرعاً رتيباً ينتهي باستراحةٍ على المقعد الإسمنتي، لتصبح سنداً لذقنٍ أشيب لمعت فوقه عينان زرقاوان تعلقت في شبكتيهما أعوامهما السبعون.
قراءة كتاب أزمار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

أزمار
درب البيت والمصير
رائحة اليود وصوتُ فقش الموج وعصاً طافحة على مدٍّ وجزْرٍ في أنف أبي رزق الله وأذنيه عينيه. كلها تتفاعل في الذاكرة لتؤكدَ الظن باليقين. يتذكر ما أخبرته جارته ثلجة البصّارة عن اهتمام إحدى الشركات العقارية بشراء منزله وهي جادة لإتمام ابتياع المبنى القديم، الذي تشغل منه جارته الشقة الأرضية المحاذية له، وتتراءى مع كل خطوة محطة من محطات عمره، تبدو على وجهه باسمة حيناً، وعابسة حيناً آخر، على تمتمات شفتين صامتتين توحي لمن يراه، أن العمر فعل فعلته والرجل فقد اتزانه. إنما من يعرفه يعرف عكس ذلك، وعندما ينوي أن يفعل شيئاً يفعله. بدا له من فقدان عصاه، ومن حديثٍ عن شراء المنزل، أن لا أحد يقاوم الواقع فجيل العصا يخلفه الشباب وخراب المنازل التي تُطاح وتُبنى مكانها الشاهقات.
قرّر أن يدخل منزله دون أن يراه أحد هارباً من قهوة العصر ومن قارئة الفنجان.
ماذا ينفع التبصير في مستقبلٍ مضى؟
لا شيء سوى الكلام وهو لا يريد السماع. لقد آل على نفسه أن يمكث طوال الليل في العتمة، وأن يحبس الأنفاس حتى ولو أقدموا على خلع باب منزله. وأخيراً، من سيسأل عنه...؟ ثلجة...؟
وهل تحت الثلج نار في عمرها؟ الاسم بارد بارد إنما يساورني الشك في التسمية، ربما لُقّبتْ به لسبب ما؟ لم تخبر شيئاً عن حياتها وأنا لم أخبرها شيئاً عن حياتي. جُلّ ما في الأمر عندما أمازحها بعد قراءة الفنجان لأهمَّ بدفع التسعيرة، تبتسم وتشكر الله على فاعل خير يسندها من الخارج. أرخى جسده وأسند رأسه إلى كنبته وسط الدار كعادته دون إضاءة المصابيح، وراح يغط في نومٍ عميق.
ثلجة تعرف موعد رجوعه عندما تسمع وقع عصاه. أسدل الليل خيوطه ولم ترَ بصيص نور في دار جارها. شُغل بالُها. أبو رزوق لما يأت ِ بعد، تسأل جيران الحي إذا ما كان أحد قد شاهده، متوجسة من حدوث مكروه له. لم يتأخر يوماً عن البيت إلى ما بعد السابعة، والساعة تشير إلى التاسعة. استنفرت الجيرة وقرعت بابه وهي تناديه، سمع ولم يستجب أو لم يجب. أصدَرَت الأمر بخلع الباب عندئذ، أضاء المصباح وفتح الباب مبادراً بتهكم: من يقرأ الفنجان ويستطلع الغيب ألا يرى جاره خلف جداره؟
لم تعُدْ ثلجة إنما كتلة من نار.
ـ بل يراه ميتاً أيها البليد الذي تجرّه عصاه.
ردَّ شاكراً جارته البصارة معترفاً بصدق غيرتها واستنفارها سكان الحي خوفاً عليه من أي مكروه، مطمئناً إلى أنهم حريصون على دفن موتاهم، وقادرون على خلع الأبواب أيضاً، إذا ما أعاد فعلته مرة أخرى.