You are here

قراءة كتاب ذاكرة الماء

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ذاكرة الماء

ذاكرة الماء

ذاكرة الماء محنة الجنون العاري؛ لا شيء في هذا الأفق، لا شيء أبدا، سوى الكتابة وتوسّد رماد هذه الأرض التي صارت تتضاءل و تزداد بعدا كل يوم. وهل للماء ذاكـــرة؟
هذا النصّ يجهد نفسه للإجابة عن بعض مستحيلاته بدون أن تخسر الكتابة شرطها.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

القطّ الذي تعودّت عليه، لم يظهر، ربما لأنها ما تزال نائمة. لم أعد أسمع أبداً نشيد الورّام الذي يأتي عادة من البرج القديم، من القلعة التي دخل منها الغزاة أوّل مرّة إلى هذه البلاد. الورّام لا يغادر مخابئه إلاّ عندما يسمع محرّك السيارة قد أقلع، فينفرط في السماء عالياً عالياً، يعبر البحر جماعات جماعات، باتجاه القلعة الكبيرة.تخيلت أن كلّ هذه الكائنات الجميلة قد ماتت. لكن الأمر بدا لي غير معقول.
هل يمكن لكل الأناشيد الجميلة أن تموت دفعة واحدة، وبهذه السرعة المخيفة؟ .
تذكرت كلمات صديقي الفنان، يوسف الذي اغتيل قبل يومين.
يا كلّ صديقي.
يا صديقي.
يا بعض صديقي.
يا أنا.
إني أموت في دمك الحيّ.
من يستطيع أن يغتال بحراً أو شمساً أو شاعراً؟؟!
ومع ذلك قتلوك يا صديقي. وأسكتوا البحر، وغيّبوا الشمس مبكراً.
أقوم من على الطاولة الكبيرة. أدور داخل بياض الحجرة. أطل من النافذة صوب البحر. الظلمة ما تزال تلف المكان ولا شيء يوحي بأن انشغالاً ما يملأ زوايا المدينة. شيء ما يعذبني في عمق الأعماق، لم أتعود على تحملّه بسهولة.أقول في خاطري. لا بدّ أن يكون القراصنة الأتراك الذين مرّوا على هذه الدنيا قبل الآن، قد امتصوها وحوّلوها إلى خراب بعد أن حكموها بالنصل والقيامة والخديعة.
لم يبق على الصباح إلاّ بعض الساعات. زرقة البحر ما تزال داكنة وسط ظلمة لا تخترقها إلاّ السفن الصغيرة الراسية في مكان ما داخل هذا الساحل الواسع الذي بدأ يضيق فجأة لا تظهر إلاّ أنوارها وهي تتلألأ في العمق مثل النجوم العائمة على سطح البحر.
لا يُعقل أن تُسرق المدينة بهذه السرعة. ما يزال فيها شيء من الحياة، يصرّ بشكل دائم على البقاء والمقاومة.
عدت نحو ريما. ما تزال في عمق فراشها نائمة. من حين لآخر تمتصّ أصبعها. شيء من الخوف يملأ عينيها، نصف المغمضتين. البارحة انسحبت باكراً لتنام، بعدما سجّلَتْ ملاحظاتها بصعوبة في كراستها الصغيرة التي سمّتها سلطان الرماد.
قالت وهي تحاول أن تمسح آثار النوم التي بدأت تغلق عينيها، وتغلق قلمها وكراستها.
ـ عمّو يوسف الله يرحمه كان طيباً. يضعني على ركبتيه ويقرأ لي الأشعار الجميلة، أو يريني صوراً عن لوحاته الكثيرة. كان جميلاً. يقول لي دائماً. يا ريما، نحن الفقراء لا نملك الشيء الكثير سوى كنز الكلمات الذي نورّثه لأصدقائنا وأحبّتنا. نتذكرهم به، ويتذكروننا به، أمّا الحكّام، هؤلاء الذين يملأون الشوارع بنصبهم التذكارية، والتلفزات بوجوههم، سيندثرون، من يتذكر اليوم طغاة الدنيا منذ بدء الخليقة، لكن من ينسى اليوم: شكسبير، فلوبير، الحلاّج، بشار بن برد، سرفانتس، عمر الخيام، من يتدكرقاتل بوشكين؟...هؤلاء هم ذاكرتنا وذاكرة الدنيا التي تعيشنا ونعيشها.
أرأيتِ.. يا ريما؟!
أتذكره بقساوة. أيّها الحكيم.
أقولها له. يضحك.
ثم يعيدها وهو يحاول أن يمطّط مفرداته كالعادة ويمسح على رأسه الصغير.
ـ أ.. ر .. أَ.. يـْ .. تْ !؟

Pages