المجموعة القصصية "الآخرون مازالوا يمرون"؛ الصادرة عن دار الفارابي، للكاتبة السعودية د. زكية نجم، نقرأ منها:
- غداً سيأتي العيد صامتاً.. ويخرس زئيرُ الحرب أنشودةً كنتُ أغنيها..
You are here
قراءة كتاب الآخرون مازالوا يمرون
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الآخرون مازالوا يمرون
كان اسمها لارا
يُخاطبني ذلك الدَّمار الممتدُّ أمام ناظريّ من الشرق إلى الغرب.. أطالعه بمرارة.. انكسارٌ بائس يغسل عن وجهي بقايا التمرّد.. أخفي فمي وراء أصابعي المتشابكة.. أخفي نحيباً في القلب.. نظراتي تعزف صمتاً آخر.
أطوّق ذراعي اليسرى.. أشنق ذلك الجرح المختبئ خلف الرداء الأدكن.. أبحث عن معبر ألمٍ.. عن ثقبِ صرخةٍ أثيره بها.. جدران القهر الأربعة تطبق على أنفاسي.. دوائر العتمة تحتويني.. تومضُ في عينيّ أحاديث صغيرة.
* * *
- غداً سيأتي العيد صامتاً.. ويخرس زئيرُ الحرب أنشودةً كنتُ أغنيها..
أقف على حافة البارود.. تنبُتُ في ذاكرتي عُشبةٌ غضّة تمُدُّ عنقها للحياة.. تزمجر زوابع النار.. تأكل أطرافها.. تتركها تذوي كشمعةٍ تحارب معادلة الاحتراق في معركة غير متكافئة الأطراف.. أرحلُ صوب الزاوية العتيقة من وجه الحقيقة.. بين آثار أقدامهم المُعتمة أفتش عن أشلاء فجر.. وبعيداً هناك.. يبحث قلبي هو الآخر عن لعبة ضائعة لطفلة تركتها تبكي.. مازال يذكر شيئاً عنها..
«كان اسمها «لارا».
* * *
لارا تشبهني.. يذكرني بكاؤها بنزقي الطفولي.. أتتبّع الدموع وهي تنسكب بحرارة على وجنتيها.. تنتزع من أعماقي عاطفة حُبٍّ بالٍ.... أضمُّها إلى صدري.. أسألها: أتحبين الحمائم؟ الرجاء يتراقص بين أهدابها المبللة..
- لعبتي.. لقد اختطفوها.
ينهمرُ دمعها غزيراً.. انتظرتُ حمائمي طويلاً لكنها لم تأتِ.. كنتُ صغيرةً مثلك يا لارا.. تأملتُ السماء والدهشة تملأ قلبي.. شيء ما يطير.. حمامة كبيرة؟!.. لا.. سمعتُ الكبار يقولون إنها طائرة مقاتلة.. لم أفهم لذلك لم أبكِ، لكنني كنت أعرف أنها ضخمة.. ضخمة جداً و مخيفة..
- أضعتُ لعبتي..
نحيبها يتصاعد.. وجهها ينطق أسى.. كانت لي الملامح الباكية ذاتها.. جدارٌ ترابيٌّ يقتحم المسافة بيني وبين لارا.. يمنعني من الرؤية.. يدفعني خارج دائرة الزمن.. يداي خاليتان.. لارا اختفت.. ذهبت لتبحث عن لعبتها في مكان آخر وفي باطن كفي تركت حرارة أصابعها.
في مكان آخر أتوقف.. شيخٌ خاشعٌ يردّد «لا تبكوا الشهداء».. أشعر بالخذلان يطأطئ رأسه في صدري.. «اللهم ارحم سحابة هذا الحزن».
تباغتني رغبةٌ في التراجع.. ظلي متشبثٌ بالأرض.. أتأمل عصاه المتآكلة وتلك الشقوق المنزوية على ظهرها.. أجثو على مقربة منه.. عيناه تحدقان باتجاهي.. لا بد أنه سيسألني من أنتِ..
«بائسة أنا.. كهذه الجدران المنهارة من حولنا»
أبتلع إجابتي.. أكتشفُ أمراً.. هو لا يرى!.. لا يعرف لغة الذلّ.. ذرّات الرمل تتحول فجأة إلى كومة رمادٍ ساخن.. كارثة أخرى تتأهب.. الموت يتراقص بين ناظريّ.. تستعر بداخلي حُمَّى الشهادة.. ألتفتُ إلى الشيخ.. بعيدٌ هو.. بينه وبين ما أرى عالمٌ رحبٌ و آمنٌ.. أصابعه متشبثة بطرف عصاه.. كأنه ممسكٌ بخيمة سبيعة.. أغرق في تراتيل الفداء.. تنسكبُ ملامحي على حمم التحدي.. أتفجر ضد اللهب.. تتناثر سنوات عمري.. تشطر الانتماء.. ترسم حوله بحراً وجرحاً ينزف.. أغمضُ عينيَّ.. يوقظني صوت بعيد.. «لا تبكوا الشهداء».
أهيم في الفراغ.. ظلّي يُنتزع من بين فكّي الضوء..
الحقيقة غداً تطرق الأبواب.. تحمل إليهم نبأ الشهيدة..
أغرقوني في البياض.. انثروا فوق جسدي ماءً معطراً واقذفوني في بحر السلام.. لا تبحثوا في محاجركم عن بقايا دمعٍ لتسفحوه.. سجلوني في صفحات أطفالكم..
الاسم: حكاية صغيرة.
السن: مولودة في الخريف السابع عشر من زمن الفجيعة.