منذ أن وقعت في حب الأدب في الثمانينيات من القرن الفائت، وأنا أقرأ وأطالع لكبار الأدباء والكتاب المعاصرين كهواية متجذرة في روحي ونفسي.
You are here
قراءة كتاب نزهة في رياض الأدب والأدباء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
فكرة
مصادر الإلهام عنــد الفنـــان...
كنت قد كتبت مقالا بعنوان "لم أكتب" ووقفت فيه على بعض الأسباب التي تدفعني للكتابة، وما إن انتهيت منه حتى قفز إلى ذهني سؤال آخر يسألني عن المصادر التي تلهم قلمي وتملي كلماتي، فوقفت حائرة أمامه فترة من الزمن فرحت أنبش في بطون الكتب عن الفن والثقافة والإبداع والمصادر التي تلهم الفنان، فوجدت أن معظم الفنانين تكاد تكون مصادر إلهامهم واحدة، إلا أنهم يتفاوتون في عددها ويختلفون في نوعيتها وحدّة تأثيرها. ولكن مهما تفاوتت هذه المصادر وتنوعت فإن الفنان أيا كان لا يستغني عن قوة روحية يستمد منها وحيه، ويهتدي بها في تفكيره، ويستضيء بنورها في أثناء عملية خلقه وإبداعه وإنتاجه. ولا شك أن الحياة بألوانها المختلفة، وأحداثها المتعددة، وصورها الرائعة هي مادة الفنان، ولكن الفنان محتاج معها إلى حافز معنوي روحي يمكنه من الإشراف على الحياة، والتأمل فيها، واستجلاء غوامضها، وتمثيل الظواهر والمرئيات فيها، وما يكتنفها من غوامض وأسرار ثم ترجمتها في أعماقه إلى حلة فاتنة جميلة تخرج إلى العيان.
فهذا الحافز أو مصدر الإلهام يلتمسها بعض الفنانين عند الله، وبعضهم يلتمسه عند المرأة، وبعضهم يستمد عناصره من اعتداده بنفسه، وثقته بمواهبه وعبقريته، وشدة إحساسه بكبريائه الشخصي. فمثلا كان المصورون والمثاليون في عصر النهضة أمثال ليونارد دافنشي، ومايكل أجلو، ورافائيل وغيرهم من العباقرة والفنانين، يتوجهون بكل عبقريتهم صوب الله، وكانت نفوسهم تندمج في الذات الإلهية اندماجا شبه صوفي يؤثر على ميولهم ونزعاتهم ويطبعها بطابع ديني ينعكس على أعمالهم، ويتجلى في حياتهم الشخصية وفي نظرتهم الفلسفية إلى الحياة. وكانت نزعة البراءة المقترنة برغبة السمو والتطهر المنحدرة من إيمانهم الديني العميق، تستولي على عقولهم ومشاعرهم قبيل الإبداع وبعده، فيهذب هذا الشعور الديني من جوهر أرواحهم، ويكسر من حدة غرائزهم، ويرتفع بهم فوق أدران المادة، ويسوقهم إلى إبداع فني ديني علوي بحيث يرسم في إبداعهم حياة أجمل وأكمل من هذه الحياة.
وبعضهم كان يصلي بحرارة إلى الله قبل أن يقوم بالإبداع، والآخر كان يصوم ويظل يتعبد الأيام والليالي وهو يتأمل ويفكر، وكان وحي الفن يهبط عليه هبوطا عاصفا مفاجئا في اللحظات التي يرهقه فيها الصوم، وينشب الجوع في أحشائه مخالبه. والبعض كانت المرأة ملهمته وخاصة عندما يحبها لذاتها وجمالها ورقتها وحنانها وعطفها لا لجسدها، فالحب المقدس الطاهر البريء هو الذي كان يؤدي بهم إلى الإبداع.
ومنهم من كان يتخذ الطبيعة مصدر إلهامه وإبداعه، فكان بعضهم يخرج إلى الحدائق العامة ويتأمل ما أبدعته الطبيعة من أزهار وأشجار وطيور وأنهار وثمر، فيغب من جمالها ويغيب في صمتها ويعانق سهولها ووديانها وجمالها وآكامها إلى أن تأتي ساعة إلهامه. وهناك طائفة من الفنانين لا يستحث عبقريتهم، النزعة الصوفية أو النسوية أو الطبيعة بقدر ما يستحثها شعور الكبرياء والاعتداد بالنفس والإيمان بقوة الشخصية والثقة بالنظرة المستقلة إلى الحياة والناس والإحساس بالتفوق في الفكر والعمل.
ورجوعا إلى سؤالي، فإنني أرى أن النزعة الصوفية المتمثلة في حب الله، والتأمل في مخلوقاته وعظمته وإعجازه وقدرته هي التي تضعني في جو يهيئني للكتابة. كما أن الطبيعة بجمالها الأخاذ من جبال ووديان وسهول وآكام وزهور وأشجار وبحيرات وشمس وقمر هي التي تدفعني للكتابة وتملي علي الكلمات. ولا أنس أن مشاعر الحب الصافي المقدس الشامل سواء أكان متجها نحو الله، أو الكون، أو الصديق الوفي، تجعلني أحب الحياة ومعانقتها والاندماج فيها والكتابة عنها وما يدور فيها. ولا أنس أيضا أن الكلمة الحلوة والإحساس الجميل والرقة واللطف تشكل مصادر إلهام لكتابتي. وباختصار، فحب الله يلهمني، والطبيعة تلهمني، ومشاعر الحب تلهمني، والتفاعل مع الحدث يلهمني، والحس بالمسؤولية يلهمني، والنزعة إلى السمو والكمال تلهمني، وحبي في تخليد اللحظة الجميلة يلهمني، والمشاعر الصادقة تلهمني، والابتسامة الصافية تلهمني، وكل هذه المصادر تحفز قلمي وتدفعني للكتابة. وقد يكون هناك مصادر أخرى تكمن وراء كتابتي ولا أعرفها؛ إلا أنني أستطيع أن أقول أن المصدر الرئيس الذي يتمحور حوله إلهامي، تفاعلي مع الحدث سواء أكان مرضيا أم مزعجا، والانسجام مع الذات، والتوحد مع الطبيعة، هي التي تولد فيّ المشاعر المثارة، فتدفعني للكتابة.