كتاب "الزحف المقدس - مظاهرات التنحّي، وتشكّل عبادة ناصر"؛ يقول الكاتب والباحث شريف يونس، في مقدمة كتابه:
You are here
قراءة كتاب الزحف المقدس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الزحف المقدس
ومع ذلك، يمكن القول بشكل مؤكّد تقريبًا إنّ النظام في تلك اللحظة كانت له، بصرف النظر عن أطماع هذا الفريق أو ذاك، مصلحة مؤكّدة في استبقاء عبد الناصر، باعتباره الرمز الأقوى للنظام، وباعتبار أنّ شعبيّته الواسعة النطاق تظلّ إحدى الأسلحة القليلة المتبقّية له لكي لا يحكم بمجرّد العنف البوليسي. ففي غياب أيّة بدائل سياسية واقعية، كان بقاء عبد الناصر أنسب الخيارات لاستمرار النظام. ربّما أفسحت الهزيمة فرصة لانقلاب قصر، ولو حدث ذلك لتمّ منع عبد الناصر من إلقاء «خطاب التنحّي»، مع تحميله المسئولية كاملة، باعتباره المسئول الحقيقي الوحيد عن قرارات تصعيد النزاع التي أدّت للحرب. لكن الذهول أحاط بالجميع: لم يحمّل أحد من كبار «المسئولين» المسئولية من قبل؛ فباستثناء عبد الحكيم عامر، كانوا جميعًا مجرّد موظّفين عند الزعيم، أو يدينون بالولاء لصديقه الملقّب «الرجل الأول بشَرْطَة». ولم يكن بمقدور عامر أن يستمرّ في السلطة في ظرف الهزيمة العسكرية إلّا عن طريق ناصر. أيًّا كانت الافتراضات بشأن صراعات السلطة في داخل النظام، بظهور عبد الناصر في التليفزيون و«تنحِّيه»، انقطعت الإمكانية أصلًا.
تنحّى عبد الناصر إذن. ولم تكن لتعيده إلى السلطة إلّا تلك المظاهرات الحاشدة التي خرجت إلى الشوارع منادية ببقائه. هذا الواقع يفرض علينا أن نتناول هذا الحدث، مظاهرات التنحّي، كحدث أساسه إيديولوجي في المقام الأول. فالمظاهرات كانت تعبّر عن اقتناعات معيّنة، عند المواطنين المشاركين لحظة خروجهم، وتجلّت في موقفهم. كانت مظاهرات 9 و10 يونيه في أساسها عفوية، نعم، لكنّ عفويتها لا تعني غياب فكرة ما، بل تعني غياب التنظيم. يمكن القول إذن بأنّ عفوية الحركة كانت تصدر عن شعور ووعي متراكم عبر 15 سنة من حكم جماعة الضباط الأحرار، ومن أُلحق بهم من المدنيّين والعسكريّين الآخرين، أملى على الناس هذا الموقف في هذه اللحظة، سواء بمبادرة من بعضهم أو بالاستجابة للمبادرة والانضمام للحشود. والحال فإنّ الإيديولوجيا ليست على وجه العموم فكرًا سياسيًّا أو نظرية، وإنّما هي حالة من الوعي والشعور السياسي، فهي أفكارٌ تبرّر قبول سياسات بعينها أو رفضها، وقيمٌ تشكّل معاييرَ للقبول والرفض، وخطابٌ يتولّى تحديد وضع متلقّيه، سواء بصفة مستمع أو مشارك أو مطالَب بالطاعة أو بفعل معيّن، أو غير ذلك.
يبدو إذن أنّ حدث 9 و10 يونيو ينبغي تفسيره، في المقام الأول، لا بتحرّكات معيّنة لأجهزة السلطة، بل بأوضاع سياسية وإيديولوجية متراكمة، شكَّلت بالفعل، باستخدام تعبئة إيديولوجية متواصلة، أذهان الناس وعواطفهم وتوجهاتهم، بما يفسر تحرّكهم على هذا النحو الفريد في تاريخ الهزائم الكبرى للدول. بعبارة أخرى، يقترح هذا الكتاب تفسير هذا الحدث الفريد كمحصّلة لعمل أجهزة الدولة السياسية والإيديولوجية على مدى عقد ونصف عقد، لا كمحصّلة مؤامرة دبّرتها أجهزة الاتحاد الاشتراكي في بضع ساعات من يوم محدّد. فهو على هذا النحو «حدث عفوي»، لكنّه في الوقت نفسه ابن «التعبئة». وإذا كان ثمّة تدبيرٌ لعب دورًا في الحدث فهو خطاب التنحّي نفسه، الذي لعب على هذا التراكم وأجاد توظيفه، وهو ما يبدو لي أهمّ بما لا يقاس في تفسير الحدث من بعض المبادرات المحدودة من بعض شِلَل الاتحاد الاشتراكي، إن وُجِدت. وهكذا فإنّ هذا الكتاب بأكمله محاولة للحفر في الأسس السياسية والإيديولوجية العميقة لهذا الحدث الذي كان المصريّون فيه فاعلًا مباشرًا، ومفعولًا به غير مباشر على مدى تاريخي.