كتاب " عصر إنحطاط الإمبريالية " ، تأليف أحمد عز الدين ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2006 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
قراءة كتاب عصر إنحطاط الإمبريالية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
عصر إنحطاط الإمبريالية
وبين هذين الأسلوبين فى تخفيض درجة الإحساس الوطنى بالخطر ، توصيف ما حدث ويحدث بغير حقيقته ، أو حصر ما حدث ويحدث فى زمانه ومكانه ، باستخدام كل أساليب السحر الممكنة ، للنظر إلى الانقلاب الاستراتيجى فى الإقليم ، وإلى دور الولايات المتحدة ، من زوايا نظر تتسم بالخداع ، وإذا كان الأمريكيون قد قلبوا صفحة المقاومة العراقية الباسلة ، وغطوها بورقة انتصــار زائف وناقص ، حصلوا عليه بالخديعة والرشــوة، فقد قلبوا - أيضا- صفحة جرائم الحرب التى ارتكبوها فى أنحاء العراق ، وغطوها بصفحة الفوضى التى فتحوا أمامها الأبواب ، سلبا ونهبا وتدميرا ، فلم يجر التركيز إعلاميا فقط على مظاهر الفوضى والسلب والنهب ، والتغطية على مظاهر التدمير والإبادة ، وإنما جرى تسويق تفسير وحيد للفوضى والنهب المنظمين ، جرى إلحاقه بالنظام الذى كان قد لفظ أنفاسه الأخيرة ، وفى كل الأحوال فقد استخدمت كل الدعاية المبذولة عن بشاعة النظام المتسلط ، للتغطية على كل حقائق استخدام القوة الأمريكية المطلقة ، التى رفعت القوة التقليدية إلى مستوى أسلحة الدمار الشامل ، ووظفت يوميا طاقة تدميرية من الصواريخ والقنابل ، فى قصف بنية العراق ، وشعبه ،تكافئ استخدام عشرة رؤوس نووية تكتيكية .
وعندما جرى تصوير اندفاعة سكان العشوائيات ، والمهمشين ، لنهب بغداد، لم يجر فقط تصوير الشعب العراقى على أنه شعب لص ، وإنما استخدمت صور سرقات اللصوص المنبوذين اجتماعيا ، فى دوائر الفقر المنتفخة حول بغداد ، للتغطية على صور أكبر عملية سرقة لمقدرات أمة فى التاريخ ، تقوم بها دولة ليبرالية ، بأسم الحرية والديموقراطية والتحديث .
ولم يستنتج أحد من ذلك أمرين على جانب كبير من الأهمية :
الأول : سقوط النظرية الليبرالية ذاتها ، التى ظلت ترى أن الدولة السلطوية وحدها هى التى تتميز بالعدوان ، إذ تمثل الحكومة الديموقراطية، بحكم ديموقراطيتها رغبات مواطنيها المسالمين ، وهكذا فنحن أمام نظرية ليبرالية فاسدة، تعبر عن تمثيل سياسى واجتماعى فاسد، بدليل أنها لم تعبر عن غير مصالح نخبتها المحتكرة ، وهى نخبة عدوانية وضيقة الأفق .
الثانى : أن الأخطاء الاجتماعية ، لابد أن يتم دفع ثمنها سياسيا فى يوم من الأيام ، لأن اندفاعة الفوضى فى بغداد ، التى أمدتها القوات العسكرية الأمريكية بالوقود ، لم تكن تعبيرا عن الخروج من حالة الاختناق السياسى ، فى ظل نظام شمولى ، أكثر مما كانت وليدة حالة من الاختناق الاجتماعى ، فى ظل سياسة تمييز اجتماعى ، حطمت الطبقة المتوسطة العراقية ، وخلقت جيوبا واسعة من الفقراء المهمشين اجتماعيا ، يشبهون غيرهم فى كل مكان ، قنابل قابلة للانفجار ، عندما تتوفر حولها درجة مناسبة من الحرارة .
وهكذا من الصور المنتقاة إلى الكلمات المنتقاة ، إلى زاوية الرؤية المنتقاة ، جرت وسائل السحر الحديث ، مدعومة بتكنولوجيا الاتصال لتمييع الحقائق ، وإخفاء جوهر المشروع الإمبراطورى الأمريكى ، للهيمنة واحتلال العراق ، وتحويله إلى جسر وثوب إلى عموم الإقليم .
* * *
وفى المجرى العريض ، لتخفيض درجة الإحساس الوطنى بالخطر ، جرت محاولة مزدوجة : تبرئة أمريكا-أولا- بتضخيم دور إسرائيل فيما حدث ، وتحميل مسئولية دفع الولايات المتحدة إليه ، بما فى ذلك دفعها إلى التحرش بسوريا ، إشاعة تفاؤل كاذب-ثانيا- بتحقيق السلام على صعيد القضية الفلسطينية ، لأن بريطانيا مضطرة إلى الضغط على أمريكا ، ولأن أمريكا مضطرة للاستجابة لضغوط حليفتها الوحيدة، وكلا الأمرين ليس صحيحا ، لأن ما بين أمريكا وإسرائيل ، لم يعد صيغة تحالف استراتيجى كما يشاع ، وإنما تطورت صيغة التحالف ، إلى صيغة اندماج استراتيجى ، وفى مثل هذه الصيغة ، فإن التفكير يكون مشتركا ، والتخطيط يكون مشتركا ، وليس من الضرورى أن يكون التنفيذ كذلك ، أما الحديث عن السلام القادم ، فإنه ينطوى على تجاهل حقيقة ، لم أتوقف عن الإشارة إليها على امتداد السنوات الثلاثة الماضية ، وهى أن مشروع السلام الإقليمي، قد سقط استراتيجيا بالفعل .
غير أن الأكثر خطورة ، من تخفيض درجة الإحساس الوطنى بالخطر ، هو غض البصر عن التهديدات الاستراتيجية المستجدة ، وعن التغييرات التى أصابت البيئة الاستراتيجية ، بعد احتلال العراق ، فنحن بالفعل ، أمام بيئة استراتيجية جديدة ، لا تتميز فقط بأنها مشحونة ، ولكن بأن موازينها الاستراتيجية قد أعيد بناؤها ، على نحو كامل :
أولا : أننــا بصـــدد احتــلال عسكرى أمريكى للعـــراق ، وهو ليس احتلالا مؤقتــا، ولا عابرا ، ولم يكن هدف عدوانه إسقاط النظام ، ولا نزع أسلحة الدمار الشامل ، التى لا وجود لها ، ولا إقامة نظام ديموقراطى بديل ، بل إننا أمام نمط جديد قديم من الاستعمار، هو على وجه التحديد ، صنف من الاستعمار الاستيطانى .
ثانيا : إن الأمريكيين لم يأتوا فقط من أجل النفط العراقى كما يشاع ، وإنما جاءوا من أجل توسيع حدود الإمبراطورية الأمريكية ، وسوف يتخذون من العراق قاعدة دائمة ، لمواصلة توسيع حدود هذه الإمبراطورية الأمريكية ، أى لإقامة أمريكا جديدة ، فى الشرق الأوسط ، وإذا كانوا قد لجأوا إلى أقصى درجات التصعيد العسكرى الرأسى ، لإحكام قبضتهم على العراق ، فسوف يلجأون إلى أشكال جديدة من التصعيد العسكرى الأفقى ، لتوسيع قاعدة احتلالهم ونفوذهم .
ثالثا : ربما يتهمنى كثيرون بالمبالغة ، حين أقول أن أمريكا جاءت لإقامة أمريكا جديدة ، فى عموم إقليم الشرق الأوسط ، لأن أمريكا القديمة قد استنفذت نفسها ، وهذه مسألة يحتاج البرهنة عليها إلى إسهاب وتفصيل، ولكن حسبى أن أشير إلى عدة مؤشرات :