You are here

قراءة كتاب بوركيني

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بوركيني

بوركيني

هل الحجاب هو تحد أم انقياد؟ كيف يمكن لامرأة محجبة أن تنظر إلى جسدها؟ كيف ترى الجسد الآخر؟ كيف تتعاطى مع مجتمع منفتح تعيش فيه؟

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 1

إلى شادي...

في المحترف

يتسلّل نور الظهيرة من بين الستائر، فيوقظني. جسدي متكوّر على نفسه، كأنّه بحجم الكرسي الذي جلست عليه. أفتح عينيّ ببطء. أحرّك كتفيّ اللتين أثقلهما الإرهاق. يداي يابستان كجزعين من خشب. يبدو أنني غفوت من غير أن أشعر، فضَغَط ثقلي على يديّ حتى فقدت إحساسي بهما. لا أقوى على تحريكهما، ولا أرغب في المحاولة. لا أفكّر في النهوض عن الكرسي. شعور غريب يتملكني. جسدي متوعّك. وانكفائي على نفسي في هذه الصورة يُشبه انكفاءة معظم النساء اللواتي أرسمهن.
أتجمّع على ذاتي مثل قبضة. قد تكون انحناءتي مؤلمة. لكنّه إيلامٌ جسديٌّ لا يخلو من لذّة، ولو عابرة...
لا أشعر بجسدي. كلّ ما فيّ مُتصلّب، إلاّ عينيّ. وهذا يكفيني. أحدّق بهما في زوايا الغرفة. أقلام مُهملة على الطاولة، وأوراق مبعثرة على الأرض. لوحات كثيرة تسكنها وجوه وأطياف وأجساد أنثوية طريّة. فتيات ونساء يتجاورن، لا يخجلن بعريهن وكأنهن يعرفن أنّ هذا المكان لهنّ. ربما يتهامسن، لكنني لا أسمع سوى صوت الصمت. لا أدري إن كانت أذناي قد صُمتّا كما كلّ شيء فيّ. الموسيقى الهادئة التي كنت أسمعها قبل أن أغرق في غفوتي صمتت هي أيضاً.
ما هذا السكون كلّه؟ أين ضجة الظهيرة في هذه المدينة؟ من أين تسلّل كلّ هذا الهدوء؟ أذكر أنني في المحترف هنا منذ الساعة الخامسة فجراً، لكنّ الصمت الذي يسود المكان الآن هو أعمق من ذي قبل. لا أدري ماذا حصل... هل غفوت فعلاً أم انخطفت؟ هل كنت غارقة في حلم أم في ما يُشبه الموت؟ لا أعرف. أحسّ كأنما غبت عن نفسي وبُعثت من جديد. بُعثت بجسد غير جسدي، وروح غير روحي.
هذه الصحوة الثقيلة من غفوة الظهيرة لا يُمكن أن تكون إلاّ صحوة منّي أنا. من العالم الغريب الذي يحتويني. من بعض الأجساد العارية التي تسكنني. أجساد أرسمها بأسلوب التظليل بينما أعيش أنا بظلّ جسدي.
هذا النور الخفيف الذي اخترق الستائر والشبابيك نصف المغلقة وصل إليّ ليُوقظني من سبات عميق. يقظتي كأنّها ولادة جديدة، فيها دهشة وغربة وألم. وإنّه لشيء عجيب أن يشهد المرء لحظات ولادته. أن يخرج من جسده هو. أن يشعر بألمه فلا يصرخ، ويتوجّس غربته فلا يبكي. أن يحسّ بأنّه هو الوالدة، وهو المولود.
أحدّق في اللوحات التي تملأ المكان. أتذكّر أنني أنا من رسمها. أبتسم، إلاّ أنّ وجهي المـُخدّر يظلّ عاجزاً عن التعبير. يداي أيضاً مخدّرتان. هل يُمكن أن أرسم بهما ثانية؟ لا يهمّ. إنّ عين الرسام هي يده ! هكذا يقول "مانيه". وهذا هو المهم. أنا أعشق مدرسته الانطباعية، ومثله، لا شيء يهمني أكثر من العينين. وها أنا الآن، لحسن الحظّ، أفقد إحساسي بكلّ حواسي، ما عدا بصري.
عيناي تُفتّشان المكان. أبحث عن شيء لا أعرف ما هو. إلاّ أنّ عدم إيجاده يُضاعف قلقي. أكتشف فجأة أنّ لوحاتي تُحدّق فيّ. وكأنّ بطلاتها يُخاطبنني. يتوجّهن إليّ قائلات إنني أحسست أخيراً بما يشعرن به منذ زمن طويل. قلقهنّ تسرّب إليّ. وربما أُصبت بعدوى الإغتراب الذي يتملكهن. فأنا رسمت معظمهنّ شبه عاريات، وإنما على عفّة ونقاء. إنّ ثقل الوجود يُنهك أجسادهن النديّة. القليل الذي يبدو من وجوه بعضهنّ يُصوّر رغبتهنّ في تأكيد وجودهنّ في الحياة نفسها، لا بظلّها.
أجساد النساء، أو الأصحّ الفتيات، شبه طفولية. لكنّ أفكارهنّ ناضجة. يحاولن الخروج من ظلّ يُضيّق عليهنّ الخِناق. وضعياتهن المختلفة تعكس تخبطهن في عالم مجهول لم يفلحن في التكيّف معه بعد.
أدقّق في لوحة "دوران". تلفّ الفتاة جسدها بمنشفة، وتقف مترنحة أمام سرير صغير، كأنها استفاقت لتوّها منتشية بعد علاقة حميمة. لكنّ نظرة عينيها غير الثابتة تومئ إلى أنّ حركة جسدها المهتزّة ليس سببها النشوة، أو حتى السّكر، بل ضياع وإرهاق بعد جري طويل في متاهات لم تودِ بها إلاّ نحو المجهول.
أراقبهن... أراهنّ متشابهات في اختلافهن. جميعهن جميلات، لكنّ جمالهنّ متشنّج. جمال مضطرب يبثّ فيّ القلق، ويدفعني إلى طرح أبسط الأسئلة وأصعبها، عن ذاتي وجسدي ووجودي...
ضوء فيروزي يُبهر عينيّ فجأة. غشاوة تُعميني، لا أدري أين مصدرها. أزيح وجهي عن مصدر الضوء. أتلمّس بيديّ الثقيلتين ما بجانبـي. ومن ثمّ أنتبه... إنّه هاتفي. لم أسمعه يرنّ، ولم أكن أسمع شيئاً. أضغط زر الإجابة، فيتهادى صوته إلى أذني وكأنه نسمة هواء هبطت عليّ من الجنّة.
منذ أيّام لم يُكلّمني خلال النهار. فقط إتصال واحد قبل النوم. عليه أن ينجز أعماله قبل عطلته القضائية السنوية، وعليّ أن أحضّر تفاصيل افتتاح معرضي الفردي الأوّل. اتصاله الآن أتى في وقته المناسب تماماً. يقول إنّه يريد أن يراني لسببين. أوّلاً لأنّه مشتاق إليّ، والثاني لكي ينتشلني قليلاً من صخب عمل غارقة فيه منذ أسابيع. لا مجال للرفض. أنا فعلاً أحتاج أن أكون معه.
"المكان اخترته بنفسي...إنّه المقهى البحري"، يقول لي.
البحر، هذا ما أحتاجه فعلاً. فصل الصيف يكاد ينتهي ولم أقصد البحر بعد. الشمس لم تُلوّن بشرتي. مازلت بيضاء كشبح، وجسدي متعطّش إلى الضوء. منذ مدّة وأنا أعيش داخل هذا المرسم الصغير، وكم أشتاق إلى أن أرى النور، وأشمّ رائحة الموج. فأنا لشدّة انهماكي بالمعرض، أجّلت كلّ شيء إلى ما بعد انتهائه.
جسدي يستعيد ليونته، وينحلّ تشنّجه. نصف ساعة ويمرّ بـي كي نذهب معاً إلى المكان الذي اختاره بنفسه، مع أنّه غالباً ما يترك لي حريّة اختيار الأمكنة التي نقصدها. عليّ أن أصعد إلى المنـزل حتى أرتدي ملابس مناسبة قبل أن يصل.
أغلق باب المحترف الذي يقبع في الطبقة السفلى من عمارتنا الصغيرة، وأصعد بسرعة إلى منـزلنا. أدخل غرفتي، أحدّق في المرآة، فكأنني أصادف وجهي لأول مرة. أتأملّه وأتملاّه، فيتضّح لي شحوبه وتعبه. لمسة خفيفة من الماكياج تكفيني حتى يستعيد وجهي رونقه.

Pages