هذا كتابٌ طموح، ليس على سبيل الأدعاء. إنّه طموح لأنّه يحاول- ضمن حيز الصفحات القليلة نسبيًّا- أن يوضح التاريخ المتنوع لعلم الأنثروبولوجيا.
You are here
قراءة كتاب تاريخ النظرية الأنثروبولوجية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
لماذا لا يكون كل هذا أنثروبولوجيًّا تمامًا حتى الآن؟
تقترح هذه المراجعة الموجزة للأنثروبولوجيا ما قبل التاريخية عددًا من القضايا التي يمكن أنْ تحقق اهتمامًا في مجال الأنثروبولوجيا المعاصرة، والتي أصبحت موضوعًا لجدلٍ مكثف لم يحدث من قبل منذ العصر الحجري. وصفت الشعوب الغريبة بصورة اعتيادية (مركزية عرقية) أو بصورة وصفية (نسبية ثقافية). والسؤال المطروح على نحوٍ متكرر، ما إذا كان الناس في أي مكان وزمان يتشابهون من حيث الأساس (كونية)، أو يختلفون من حيث الجوهر (نسبية). كانت هناك محاولات لتحديد الاختلافات بين الحيوانات، والطبيعة والثقافة، والغريزي وما تمّ تعلمه، وكان بعض هذا قائمًا على عمل علمي دقيق.
وعلى الرغم من هذه الاستمراريات التاريخية الثابتة على نحوٍ عميق؛ فإننا نحافظ على فكرة أنّ الأنثروبولوجيا ظهرت كعلم فقط في مرحلة لاحقة، علمًا بأنّ ولادتها كانت حقيقةً عملية أكثر تدريجية مما افترض أحيانًا، ومبرراتنا لهذه هي:
أولاً: تعود كل الأعمال المشار إليها حتى الآن إلى أحد نوعين: كتابة الرحلات، والفلسفة الاجتماعية. ويلاحظ أنّه فقط عندما يُصهَر هذان الجانبان للبحث الأنثروبولوجي من حيث دمج البيانات والنظرية؛ تظهر الأنثروبولوجيا.
ثانيًا: وربّما على نحوٍ أكثر جدلية؛ فإننا نلفت الانتباه إلى حقيقة أنّ كل الكتّاب المشار إليهم حتى الآن تأثروا بزمانهم ومجتمعاتهم. وهذا بالطبع صحيح بالنسبة لعلماء الأنثروبولوجيا المعاصرة كذلك، إلا إنّ الأنثروبولوجيين الحديثين يعيشون في عالم حديث، ونحن نجادل في أنّ الأنثروبولوجيا لا تعني شيئًا على الإطلاق خارج السياق الحديث؛ فمجال العلم هذا ناتج، وليس مجرد سلسلة للأفكار المنفردة كما في تلكم المشار إليها أعلاه، إنّما هو ناتج لتغيرات ذات مدى واسع في الثقافة والمجتمع الأوربـي، يمكن أنْ تقود إلى تشكيل الرأسمالية، والفردية، والعلم العلماني، والقومية الوطنية والتأملية الثقافية المتطرفة.
من جانب، إذن، فقد تبعتنا موضوعات معينة خلال الفترة التي تعاملنا معها حتى الآن. ومن جانبٍ آخر، ظهر مدى لأفكار جديدة وأشكال جديدة للحياة الاجتماعية، منذ القرن الخامس عشر فصاعدًا، والتي كان عليها أنْ تشكل الأرضية التي بني عليها علم الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية.
وقد نوقشت فكرتان من هذه الأفكار الجديدة. أولاً: رأينا أنّ الحالة المقابلة مع ‘الآخر’ حفزت المثقفين الأوربيين لينظروا إلى المجتمع كما لو أنّه وحدة تمر بتغير ونمو، من البسيط نسبيًّا ذي المدى الصغير (مجتمعات محلية) إلى أمم صناعية كبيرة ومعقدة، إلا إنّ فكرة التنمية أو التقدم لم تكن مقتصرة على مفهومات التغير الاجتماعي؛ فالفرد أيضًا يمكن أنْ يتطور من خلال التعليم والمهنة، ومن خلال تنقية شخصيته وإيجاد ‘ذاته الحقيقية’. وكما أشار برونو لاتور (1991)، فقد كانت فكرة الفرد المستقل ذاتيًّا لازمة لفكرة المجتمع. فقط عندما يؤسس الفرد الحر كـ‘مقياس لكل الأشياء، يمكن لفكرة المجتمع كوجود جمعي للأفراد أنْ تغرز جذورها، وأنْ تصبح موضوعًا للتأمل المنظم. وفقط عندما يظهر المجتمع كما لو أنّه موضوع آخذ بالتحسن على نحوٍ مستمر مما تعاد صياغته ليأخذ أشكالاً متقدمة، يمكن للفرد المستقل العقلاني أنْ يتغير إلى شيء ما جديد ومختلف، وحتى ‘أكثر حقيقية بالنسبة لنفسه’. وبدون خطاب جلي حول هذه الأفكار، فإنّ موضوعًا كالأنثروبولوجيا ما كان يمكن أنْ يظهر على الإطلاق. ثانيًا: بُذِرَت البذور في بدايات الفلسفة الحديثة، وتمّ القيام بخطوات متقدمة مهمة في القرن الثامن عشر، وفي القرن التاسع عشر أصبحت الأنثروبولوجيا فرعًا من فروع المعرفة الأكاديمية، وفقط في القرن العشرين حققت الشكل الذي تدرّس فيه للطلبة اليوم.
سنتحول الآن إلى التيارات الفكرية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وذلك قبل أن نروي- في الفصل القادم- كيف جاءت الأنثروبولوجيا من عصر كفرع من فروع المعرفة الأكاديمية.