كتاب " محطة أخيرة خارج المكان " ، تأليف ساطع نور الدين ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب محطة أخيرة خارج المكان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

محطة أخيرة خارج المكان
أبو ساطع
مرعب الوقوف على حافة القبر، والنظر في تلك الحفرة الضيقة المغطاة بالورود والرياحين وأوراق الكيناء، والتسليم بأنها ستشكل مسكناً نهائياً لجسد طالما امتلأ بالحياة وروح طالما امتهنت الحرية وتخطت الحدود على مدى الأعوام الخمسة والثمانين الماضية، وظلت تقاوم حتى الرمق الأخير.
مخيفة العودة بالذاكرة، في ذلك المكان بالتحديد، إلى الصور الاولى والكلمات الاولى والتوجيهات الاولى، التي كان ستعتقد أنها سقطت في النسيان، ولن تبقى في تلك اللحظة بالذات إلا الصورة الاخيرة والاشارة الاخيرة، في غرفة العناية الفائقة، حيث السؤال المؤلم:
هل هو يتعذّب، هل يشعر بدنو الأجل، هل استعد فعلاً للرحيل كما كان يشاء، بهدوء وسكينة؟
منذ اسابيع كان يوحي بأنه يدرك أن لحظته قد حانت. وهو لذلك رفض كل أشكال العلاج، واعتبرها مضيعة للجهد والوقت، واعترض على كل انواع الفحوص المخبرية ورأى فيها ملهاة للأطباء والممرضين، وقاوم العملية الجراحية وكاد يصفها بأنها إساءة او تدخل سافر في خصوصياته، وانتهاك فظ لمشاعره..
أمنية أخيرة ووحيدة طلبها ولم تتحقق له: هي أن يموت على سريره، في بيته، في قريته، في جنوبه، وحيداً إذا اقتضى الأمر.. برغم انه لم يعرف الوحدة يوماً، ولم يعتمد على العائلة فقط لكي ترافقه، بل ظل، حتى أسابيع قليلة مضت، يقود سيارته على الطرقات بحثاً عن صديق قديم من مواليد العشرينيات من القرن الماضي، يستعيد معه ذكريات مدرسة مار لوقا في حيفا أو مغامرات بيروت التي أوقفتها الحرب الأهلية، ويخبره عن «الزيارة» الأولى لدمشق، ويعرض معه وقائع الحروب الإسرائيلية التي لم تتوقف يوماً والمقاومات التي لن تتوقف أبداً..
ويتبارز معه في الشعر وفي اللغة وفي الدين ، ويتناقش معه في السياسة، ولو بالإشارات.
سأل كثيرون عما كتب من مذكرات او حتى يوميات مخبأة في مكان ما في البيت. لكن العائلة بأسرها تعرف انه لم يترك حتى وصية مكتوبة. كان يظن انه ليس مؤهلاً للكتابة بعد، وما زال عليه أن يقرأ المزيد المزيد من الكتب، قبل ان يبدي رأيه، وقبل ان يغادر تلك السخرية اللاذعة التي طالما ميزت شخصيته، ولم تقطع صلة الوصل مع احد من حوله، بل ربما كانت جواز سفره الوحيد إلى قلوب الجميع، وكانت علامته الفارقة التي لم يخطئها أحد.
على حافة القبر، تتساقط الذكريات بسرعة. خمسة وثمانون عاماً مرت على السيد الذي لم يعرف بـ«سيادته» إلا على نفسه، ولم يقبل إلا بأن يضيف إلى ذلك اللقب ميزاته الشخصية الفريدة، التي غالباً ما أثارت الفضول والإعجاب وحتى الرغبة في التقليد..
كانت الذكريات غزيرة وصعبة، لأنها لم تتوقف حتى بعد أن أهيل التراب على رفيق امتد السير معه أكثر من خمسين عاماً، اسمه كاظم نور الدين.
(23/3/2009)

