كتاب " ألقيت السلاح " ، تأليف ريجينا صنفير ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب ألقيت السلاح
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

ألقيت السلاح
مقدمة
بقلم جوزيف مايلا (*)
إن للحرب ذكرى إسْتِحْواذِيَّة صَلْبة. فهي تَتَشَبَّث بوجدان الذين واللواتي حملوا السلاح أو شاركوا في التأهيل السياسي النضالي أو في التدريب العسكري الميليشي، بعِناد يزداد حِدَّة كلما اسْتَشْرى العنف في لبنان واستمر، معيثاً فيه التدمير والفساد. فبالنسبة لللاتي وللذين كانوا، في وقت من الأوقات، وبشكل من الأشكال، وعلى مستويات مختلفة من المسؤولية، عاملين فاعلين ومؤثّرين في الأحداث العنيفة التي طبعت التاريخ الحديث لهذه البلاد، فإن هذه الذكرى تُشكل الصَّدى الذي يُعيده الألم. ذلك أن خِلْفَة الحرب هنا، أو بُقْياها هي في إصرار ومثابرة الماضي الذي حَلَّتْ فيه بكل نوابتها، على العودة إلى الحاضر، فيَسْتَوْطِنه ليتَّحِد فيه بألم، لا يجد الشِفاء اليه سبيلا. «النسيان صعب»؛ هذا ما تُقِرّ به ريجينا صنيفر كتابةً في مُؤَلَّفِها هذا، بوحْي مما خَبِرت وعانت مع النسيان، وذلك قبل أن تَعْقِدَ العزمَ لأجلها، ولأجل أبناء مِلَّتِها، ولأجل جيل برمَّته، على سَرد ما كانت عليه الحرب التي عاشَتْها. فالألم العُضال هو اُبن الشَّقَاء الذي تُعانيه الذاكرة، ولا سبيل إلى التّغلب على هذا الألم والعمل على طرده، إلّا بالانكباب على إِنتاج عمل يكون وَليد الذاكرة التي يَسْتَنْطِقُها، ويَسْتَوْحِيها، والتي تجد فيه بدورها حَيّزاً تقول فيه نفسها. فتبدو ريجينا صنيفر والحالة هذه، وكأنَّها ارْتَضَت مواجهة الألم، الذي أرَّقَها لسنواتٍ طِوال، للمرة الأخيرة، لتَسْبِر أَغْوار نفسها، وتقع فيها على ما يَنْخُرُها، ولا يَنْفَكُّ يَعْكِس هذا الإنزعاج الذي يُصيب الذات منها، فتتخلص وتَبْرأ مما يُثابر على دوام العودة إلى حاضرها، فيُمْعِن في تعذيبها.
وإذ وقَفَتْ على مسافة من حقبة باتت اليوم منصرِمة، حيث كانت القناعات النضالية تكفي لاسْتِثَارة المعارك العادلة، وحيث لم يكن العنف إلا امتداداً للإيمان، تعود ريجينا صنيفر إلى ما كانت عليه سنواتها كامرأة حملت السلاح، كمقاتلة بين المقاتلين على الجبهات. إنّ مسارها هذا ليس إلّا مسار جيل بكامله، اكتشف في يوم من الأيام أنّ لبنان طفولته، لبنان أهله، لبنان المثال في نظره، أصبح حِصناً محاصراً. فمعها لا يفيض الكلام على لبنان وهو في طور الانزلاق إلى الهاوية المدلَهِمَّة، كما كانت عليه الحال مع أبناء الجيل الذي سبق جيلها، وإنما هو يدور على لبنان الذي أنْجَزَ انزِلاقه، واستَقَرَّ في القَعْر، وبات على فَاقِدِيه ومُفْتَقِديه، أن يدافعوا عنه أرضاً، وفكرة، وكياناً وصيرورة. فريجينا صنيفر مسيحية، والمسيحيةُ فيها ترى في الإعصار الذي حلَّ في لبنانها المثالي، كما في الجنون الفَتّاك الذي تَتَّصِف به الأهواء المتنافرة لتَنَاقُضها، كل الشكوك التي تُثْقِل صَيْرُورة الأقلّيات في الشرق الأدنى. فإذا بالأحزاب السياسية وميليشياتها تحتَشِد جنوداً وعَتَاداً، فيما ينال الإهتياج من ترويجها الإعلامي الذي لا يتوانى في النيل من الدولة، فيَغُور في الفَغْر الذي فَتَحَه في كيانها كلٌ من تردُّدِها واهتزازِها، بفعل إِمعان طبقة سياسية، اتُّصِفَت بمثابرتها في تقويض دعائم الدولة، ونَخْر وإضعاف بناءاتها المؤسَّسَاتِية، عبر تلاعبها بالسلطة وتناسِيها المصلحَة العامة. وكان من شأن هذا الترويج أن أسْرفَ في الحَثّ على المقاومة، وأفرَطَ في الدعوة إلى التعاون؛ ولكنه لم يكن ليعني تعاون المواطنين المتَّحِدين في مواجهة الخطر المحْدِقِ بكيان دولتهم والمترّبِص ببلادهم، وإنما التعاون الذي بات من الضروري على المتّحدات، كل منها على حِدَة، أن تُقْبِلَ عليه. إذ أصبح كل مُتَّحد يحلم بِنَسْج الروابط في داخله لِيَسْتَعِيض بها عن تلك التي فشِل في إقامتها والابقاء عليها مع غيره من المتَّحدات. فالحياة مع أبناء المِلَّة الواحدة أفضل وأسْلَم، طالما أنّ الحياة مع أبناء المِلَل الأخرى محكومة بالاستحالة. تلك كانت الغاية الخَفِيّة والكلمة الفاصلة للفلسفة الميليشاوية. فهي تَنْهَل من اليأس والتعظيم، وتُلَخِّص التصدُّع، لا بل القطيعة التي ضَرَبت الميثاق المجتمعي، والتَّخلّي عن التعايش بين الطوائف الدينية التي تشكله في الأساس. أما في ما يتعلق بالتعظيم والتمجيد، فهما ينبعان من الشَّغف بهُوِيّة الجماعة الطائفية التي، وفي ظل تماهي وذوبان الهُويات الفردية فيها، ازدادت لُحمةً في خِضَم الإرادة الضَّارية بالاتحاد بالأرض، المشتَرَكة أساساً مع الطوائف الأخرى، والاستيلاء عليها لنفسها فقط. فالحقبة كانت حقبة الراديكالية، حيث أَنصاف الأوزان لم تكن وسائل ناجِعة تُعْتَمَد عندما تَتَّسِع رُقْعة المغالاة لتصل حدّ التطَرّف، عندما يتحول الخوف ـ وقد قيل إنه غُلِبَ فأُخْضِع ـ إلى عنف وقطيعة، وعندما يصبح الدفاع عن النفس ذريعة لإقصاء الآخر، هذا الذي كان فيما مضى، شريكاً في المواطنية. وفي هذه الحال، يقترن التاريخ الشخصي لكل فرد مع المصير الجماعي الذي ينصهر فيه بسهولة، وذلك داخل كل من المتّحدات التي تجد نفسها في المواجهة، وقد دُفِعَ بِواحدها ضِدَّ الآخر، بفعل ما يُمليه عليها الشك والارتياب من عدائية. ولقد كان من شأن هذا التلاقي والإنصهار للمسارات الفردية في المسار الجماعي، أن انتهى بجيل من الشباب المتجّذِر في تربَة ودَمال طائفته، والمؤمن إيماناً كاملاً بقناعاتها، إلى سلوك مسار يتحكَّم فيه كل من القلق والاضطراب الثوري. وكان لكل من إفلاس النُّخب السياسية في إيجاد حلول ملائمة تنهض بالبلاد، والإخفاق الفلسطيني في لبنان، إذ أخضع في سبيل نُصْرَة قضيته البلد الوحيد حيث كان بإمكان الفلسطينيين الإفادة من حيّز يتيح لهم حرية التعبير والحركة، والتَّأسُّلِيّة أو الردَّة الوراثية في الدفاع عن النفس، وهي ثمرة ثقافة القلق التاريخي الذي عملت أجيال من المسيحيين على إذكائه، أن شكَّلوا عوامل قادرة على شرح ردّات فعل هؤلاء الآلاف من الشبان الذين، وفي مستهل حياتهم الراشدة، أَغْوَتهم ميولُهُم الإنعزالية فَشرعوا في التخطيط لقيام وطن على قياس مخاوفهم وأوهامهم. مَن ذا الذي سَيَرْميهم بحجر وهم الذين أُوُرِثوا تُرَاثاً مفتناً؟ إن الحكم الإستعادي على التزامهم خلال حرب لبنان، لا يَسَعُه أن يَقْتَبِس مقاييسه التقويمية من خطاب الضَّلال العقائدي، والتعصّب الديني والتلاعب بالحقائق والمصائِر فقط. لأنه لو فعل لكان تقويمه سهلاً للغاية، وظالماً للغاية؛ فاعتماد هذا النهج يَنْزَع إلى إِغفال حقيقة بشرية ثابتة، ألا وهي أنّ ما مِن أحد يختار البؤس بملء إرادته. فمواكب الحِداد التي تخطُّ في كتاب ريجينا صنيفر أثلاماً، فيها من الفصاحة والبلاغة ما يكفي للتعبير عن العجب أمام الموت المتَعَمَّد، أمام الإنتحار، والألم الناتج عنه لدى مَنْ يُقْدِم عليه.